[الرد على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن]
قال الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:٣] وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية وأضرابها في أن القرآن مخلوق، وليس التغافل عن الرد على أهل الشبهات مما يرد به شبههم، فلابد في مجالس العلم من أن يحرر الخطاب، فهم يقولون: إن (جعل) في القرآن جاءت بمعنى خلق، قال الله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] بمعنى خلق الظلمات والنور، وقال هنا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:٣]، فيقول رؤساء المعتزلة وأئمتهم لماذا هذه المكابرة؟ هذا نص صريح في أن (جعل) بمعنى خلق.
وقلنا: إن الزمخشري لما ألف تفسيره قال في مقدمته: الحمد لله الذي خلق القرآن، وقيل له: إن أحداً لن يقرأه، فقال: الحمد لله الذي جعل القرآن، باعتبار أن الخلق بمعنى الجعل عند المعتزلة، وحتى يستقيم الأمر ننيخ المطايا بهدوء ونأتي بنظائر، فهذا منهجنا في التعليم، ثم نطبِّق تلك النظائر على ما نحن فيه؛ حتى يكون هناك حيادية في الطرح، فالأفعال أحياناً لا تظهر إلا من سياقتها؛ فهي تحتمل أكثر من معنى.
قال الله جل وعلا على لسان أهل النفاق: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣]، فكلنا نحن والمعتزلة نفهم أن (انظرونا) هنا بمعنى انتظرونا، والفعل نفسه قال الله جل وعلا: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:٩٩]، فعدي بحرف الجر (إلى) فتغير المعنى، فلا يأتي أحد ويقول إن نظر هنا بمعنى تمهل، وإنما المعنى النظر بعين الباصرة، ويقول الرجل منا: نظرت في الأمر، وليس المقصود أنني أبصرته بعيني؛ فقد يكون الأمر معنوياً، لكنني نظرت في الأمر بمعنى تدبرته وتأملته.
ومنه قول الله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:١٨٥] أي: يتدبروا ويتأملوا، فاختلف المعنى مع أن الفعل واحد؛ لاختلاف الاستعمال، لكن هذا الاستعمال لا بد له من ضوابط وقرائن تدل على كل معنى، فعلمنا أن الفعل (نظر) لما كان لازماً كان بمعنى تمهل، ولما تعدى بحرف الجر (إلى) أصبح بمعنى النظر بالعين الباصرة، ولما تعدى بحرف الجر (في) أصبح النظر بعين البصيرة، وهو التروي والتمهل أو التفكر في الشيء والتدبر فيه.
وقال الله جل وعلا: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:١٣] أي: ارتفعتم، وقال ربنا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:٢٩] أي: انصرف وقصد، ثم قال ربنا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:١٤] ولم يتعدى، فنحن متفقون جميعاً على أن الفعل (استوى) في كل آية هنا له معنى مختلف عن الآخر، والفعل (جعل) يسمى من أمهات الأفعال، أي: التي تستخدم في مواطن كثيرة، مثل: عمل، وفعل، وطفق، وأخذ، ومنها جعل، فنقول إن (جعل) في القرآن يأتي على معان بحسب السياق مستصحبين شيئاً لا بد منه وهو: أنا نفيء ونرجع بالمتشابه إلى المحكم، ولا نفيء بالمحكم إلى المتشابه، فلما نص الله جل وعلا في مواطن كثيرة على لفظ التنزيل ما كان لنا أن نفر من لفظ التنزيل ونحن نجد معناً لجعل في غير الخلق، فنقول نعم جاءت بمعنى خلق في القرآن، قال الله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩]، وقال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:١]، وهذا من المترادف؛ لأنه لا يمكن التبديل هنا، فجعل هنا بمعنى خلق، لكنك تلاحظ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:١]، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩] تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول واحد، فإذا تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول واحد فهو بمعنى خلق، ويأتي جعل بمعنى التسمية، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩] أي: سموهم إناثاً والدليل قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:٢٧]، فقول الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩] أي: سموهم إناثاً.
فإذا تعدى إلى مفعولين لا يكون بمعنى الخلق، وإنما يكون بمعنى التصيّيّر، يعني: صيّره، قال الله جل وعلا يحكي عن العرب الفصحاء في كتابه الفصيح أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] فتعدت لمفعولين: {الآلِهَةَ إِلَهًا} [ص:٥]، وواحداً صفة، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] ومعلوم أن القرشيين لم يريدوا أن يقولوا أبداً: إن النبي صلى الله عليه وسلم خلق ربه وخلق الآلهة؛ فهذا غير وارد أصلاً في الخطاب؛ لأن الله أصلاً غير مخلوق فهو خالق، والأمر الثاني: أن قريشاً لم تزعم أن النبي هو خالق آلهتهم، فليست (جعل) هنا بمعنى خلق، إنما هي بمعنى صيّر، فالتصيير غير الخلق، فقد يكون المصيَّر مخلوقاً وقد يكون غير مخلوق، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:١٠] أي صيّرناه لباساً، مع أنه في أصله مخلوق لكنها لوحدها لا تدل على أنه مخلوق، فلا بد من دليل آخر.
فهنا نقول لهم ولمن سار على نهجهم؛ لأن المعتزلة تأثرت بهم بعض الفرق في هذا المعنى، نقول: إن (جعل) هنا ليست بمعنى خلق لأمرين: أولاً: أنه تأباه اللغة؛ فقد تعدى إلى مفعولين، ثانياً: أن السياق القرآني يأباه.
ثم إن القرآن في مواطن كثيرة ذكر الله جل وعلا فيه التنزيل والإنزال والنزول بعدة طرائق، قال الله: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:١٠٥]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:٩] وغيرها من الآيات، وهذه المحكمات لا يمكن أن نهدمها جميعاً -فليس هذا بقاعدة علمية- لفعل يحتمل أن يكون بمعنى الخلق، مع أننا بيّنا أنه إذا تعدى إلى مفعولين فلا يمكن أن يكون بمعنى الخلق.