للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مثال على عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم]

والآن سنقف على بعض ما عاتب الله به نبيه سواء في الكتاب أو السنة، أو فيما دل الأمر عليه: قال الله جل وعلا: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠]، هذا في أمثال عبد الله بن أبي، وقد كان الإجماع قد استقر في المدينة على جعله أميراً عليهم، وذلك قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة انصرف الناس عنه فبقي في صدره شيء كتبه الله، فأخذ يظهر حب اليهود، ويظهر النفاق، وهو الذي ولغ في عرض عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فلما عاد اشتد مرض الوفاة على عبد الله بن أبي، فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أبي في مرضه الذي مات فيه، وأراد النبي أن ينجو به فقال: قد كنت نهيتك عن حب يهود، فقال هذا الوقح!: قد كان أسعد بن زرارة يبغضهم فمه.

فالنبي يريد أن يبين له أن ما أصابك من سوء الخاتمة إنما هو لحبك الشديد لليهود وبغضك لأهل الإيمان، فولم يقصد أن حب اليهود سبب في الوفاة؛ لأن الكل سيموت، فرد عدو الله بهذه المقالة؛ لأنه أراد أن يخرج بالخطاب عن مساره، فتركه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

فلما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه في ملأ من الصحابة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاة أبيه، وطلب الابن من نبينا صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه قميصه، فكفن عبد الله بن أبي في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات على الكفر، ونزل صلى الله عليه وسلم في قبره وصلى عليه أما الصلاة فلم يكن قد ورد النهي في قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:٨٤]، فإنها نزلت بعد هذه الحادثة.

فإن قيل: فلماذا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـ عبد الله بن أبي؟ والجواب ذو شقين: الأول: إجابة لابنه، فإن المروءات يجب أن ينافس فيها أهل الفضل، فإن ذوي الفضل يستحيون أن يردوا السائلين، فأجاب رجلاً مؤمناً إلى سؤاله، هذا الشق الأول.

والأمر الثاني وهو الأهم والأبرز: أنه في يوم بدر كان من الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان طويل القامة، عظيم الجثة، فلما أسر لم يكن عليه إلا ما يستر عورته، فأرادوا له قميصاً وثوباً فلم يجدوا قميصاً أو ثوباً يلائم جسده إلا قميص عبد الله بن أبي، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر ثوب عبد الله بن أبي وأعطاه عمه، فأصبحت لـ عبد الله بن أبي يد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطى النبي قميصه لـ عبد الله يوم وفاته ليكافئه على تلك اليد.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كانت له يد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب رسول الله أن يكافئه عليها.

فالله يقول لنبيه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:٨٠]، هذه الآية تتضمن الخبر والإنشاء؛ لأن كلام العرب خبر وإنشاء، فالخبر: ما يحتمل التصديق والتكذيب، والإنشاء: ما يكون بمعنى الطلب، والآية معناها: استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن ينفعهم استغفارك شيئاً، وهذا خبر، وقوله سبحانه: (استغفر) هذا أمر، والنبي صلى الله عليه وسلم خير، فاختار ما يناسب سجيته وشفقته ورحمته.

هذه من جملة الآيات التي ظاهرها العتاب، لسيد ذوي الألباب، صلوات الله وسلامه عليه.

هذا ما ذيلنا به هذا الدرس المبارك، وقد تكلمنا فيه عما أرجئنا الحديث عنه في لقاء ماضٍ عن العتاب القرآني لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهو طويل جداً عرجنا على بعضه ونكمل بعضه حيناً آخر، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.