[تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم)]
قال الرب تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:١٧٧]، هذا عود على بدء، كان الله جل وعلا قد تحدث في صدر هذا الجزء عن قضية تحويل القبلة فلما أكثر الناس على أهل الإيمان من أهل النفاق والإشراك واليهود والنصارى، وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:١٤٢]؛ قال الله جل وعلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:١٧٧].
والبر قرئت بالنصب والرفع، فعلى النصب تكون خبراً متقدماً لليس، واسم ليس المرفوع هو المصدر {أَنْ تُوَلُّوا} [البقرة:١٧٧].
والأصل في المبتدأ والخبر أن يقدم في الترتيب الأقوى، والمصدر أولى من المعرف بأل؛ لأنه إضمار والإضمار من أقوى المعارف، فعلى ذلك جعلت: {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:١٧٧] الخبر، لكن الترتيب في التقديم والتأخير هذه مسألة أخرى، وقدم الخبر رداً على أهل الإشراك، وهذا على قراءة: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة:١٧٧]، وعلى قراءة: (ليس البر) المسألة واضحة، البر اسم ليس، و {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:١٧٧]، مصدر منسبك من أن وما دخلت عليه في محل نصب خبر لليس.
نعود إلى الغاية من الآية وهي منزع إيماني قال الله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:١٧٧]، من أراد القرب من الله فليقرأ هذه الآيات.
يسأل الناس أين البر؟ أين معالي الأمور؟ أين مدارك الجنة؟ أين النجاة من النار؟ أين طرائق الحق؟ أين معالم الهدى؟ فيجيبهم الرب تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة:١٧٧]، وهذا استدراك عظيم من رب رحيم، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:١٧٧]، آمن بأن الله جل وعلا لا رب غيره، ولا إله سواه، في السماء عرشه، في كل مكان رحمته وسلطانه، يحكم ما يشاء، يفعل ما يريد، يقدم من يشاء بفضله، يؤخر من يشاء بعدله، لا يسأله مخلوقاً عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أنزل الكتب، بعث الرسل، هو الرب وحده لا رب غيره، ولا إله سواه، هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق.
ثم جاء بعد ذلك ما يتبع الإيمان بالله ولا يمكن أن ينفك عنه، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:١٧٧] يحشر الله فيه العباد، ويقوم فيه الأشهاد، ويظهر فيه الشهداء، تنصب فيه الموازين، ويكون فيه الصراط، ويقام فيه الحوض، وفيه من الأهوال ما يشيب له الغلمان، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢].
والملائكة خلق من خلق الله خلقهم الله جل وعلا من نور، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، وفي الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الرب تبارك وتعالى).
وقد أثنى الله جل وعلا عليهم ثناء عاطراً، وذكر أنهم {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:١٦].
ثم قال جل وعلا: (والكتاب) كتب أنزلها الله جل وعلا فيها الهدى والنور، سمى الله منها التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، فيها من المواعظ والرقائق والهداية للخلق ما لا يمكن أن يحيط به أحد.
(والنبيين) بشر من الخلق اصطفاهم الله جل وعلا، خصهم بخصائص: تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، ما منهم من أحد إلا ورعى الغنم، يقبرون في المكان الذي يموتون فيه، خصهم الله جل وعلا، بأعظم خصيصه: وهي الوحي ينزل عليهم من السماء، هم دعاة إلى الحق ومعالم على طريق الخير، ورحماء بالخلق، وأكرمهم وأعظمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، سمى الله منهم في القرآن ٢٥ نبياً، والإيمان بهم جملة من أعظم أركان الدين.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:١٧٧]، وكلمة على حبه أي: أن يكون الإنسان صحيحاً شحيحاً يخشى الفقر، ويرجو الغنى، وهي أعظم مواطن العطاء، ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى؟! وهذا أمر تعرفه العرب في سنن كلامها، كما ذكره زهير في مدح هرم بن سنان، والمقصود من هذا أن الإنسان إذا أعطى المال على حبه وقت تعلقه بالمال فكيف به إذا اغتنى؟! يكون عطاؤه أعظم.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:١٧٧]، من؟ {ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:١٧٧]، قدم الله ذوي القربى، {وَالْيَتَامَى} [البقرة:١٧٧] الذين لا كاسب لهم، وهم من مات آباؤهم وهم لم يبلغوا الرشد بعد، {وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة:١٧٧] الذين يتعرضون للناس أو يكونوا أخفياء، {وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة:١٧٧] المنقطع الذي انقطعت به السبل، {وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:١٧٧] والسائل غالباً لا يسأل إلا عن حاجة، {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:١٧٧] أي: المكاتبون.
{وَأَقَامَ الصَّلاةَ} [البقرة:١٧٧] أعظم أركان الدين على الإطلاق، {وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} [البقرة:١٧٧]، وهي منصوبة على الاختصاص أي: وأخص الصابرين، {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:١٧٧]، البأساء: الفقر والعوز، والضراء: الأسقام، والأمراض، والبلايا، وحين البأس: أي: وقت القتال وملاقاة العدو، كل هذه الصفات لا يمكن أن تكون إلا في قوم صدقوا، والصدق مع الله جل وعلا أعظم المطالب وأدل البراهين على الانضمام لجند الله الغالبين، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩]، وقال الله هنا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:١٧٧] أي: صدقت أفعالهم أقوالهم، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:١٧٧]، والتقوى لباس عام وجامع لكل خير، وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، ترجو عقاب الله، ومثل هذه الآيات لا يمكن أن تشرح لغوياً ولا بلاغياً؛ لأنه خلق يتمثله المسلم ويؤمن به، وعقيدة يسلك بها المؤمن، وطريقة إلى ربه تبارك وتعالى، وآداب وقيم وصلوات وعبادات ومعالم يرشد الله بها الأخيار من عباده الطالبين معالي الأمور، وحفظها والعمل بها من أعظم الضروريات للوصول إلى أعالي الجنات.