منن الله تعالى على موسى منذ صغره حتى صار شاباً
ثم عدد الله جل وعلا أفضاله ومننه وعطاياه على هذا النبي الكريم، فقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:٣٧] أي: بإجابتنا لدعائك مرة أخرى.
وقوله جل وعلا: (مرة أخرى) يدل على أمرين: أولاً: يدل على أن هناك أموراً سابقة، وثانياً: يدل على أن هناك أموراً لاحقة؛ لأنها لو كانت خاتمة المطاف لجاء التعبير القرآني: (ولقد مننا عليك مرة) أخيرة؛ لأن الأخير يعني: الخاتم، لكن الآخر قد يكون بعده آخر غيره، ولكنه خلاف الأول، أما الأخير فهو خاتمة لما سبق.
فقول ربنا جل وعلا: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} [طه:٣٧] المخاطب هو موسى {مَرَّةً أُخْرَى} [طه:٣٧] أي: سبقت منتنا عليك، وستأتي منن أخرى عليك أيها الكليم، ثم عدد الله ما سبق، وأشار إلى ما سيأتي، فقال جل ذكره: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:٣٧ - ٣٨]، (إذ) ظرف لما مضى من الزمان، كما أن إذا بالألف وظرف لما يستقبل من الزمان، قال الله جل وعلا: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:٣٨]، ولم يذكر الله جل وعلا في آية ما الذي أوحاه إلى أم موسى، فأبهمه حتى يفصله بعد قليل، وتصبح الأنفس مشتاقة لسماعه، ومن أساليب القرآن: التفصيل بعد الإجمال.
قال الله جل وعلا: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} [طه:٣٨ - ٣٩]، لكن ينبغي أن تعلم أن وحي الله لأم موسى إنما هو إلهام، وليس هو الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء؛ لأن النبوة لا تكون في النساء، وما كانت نبياً قط أنثى.
فقوله: ((إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى))، أي: ألهمها الله ((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ))، الذي سيقذف هو موسى (في التابوت) أي: في الصندوق، فلم يقل الله لها: أخفيه هنا أو هناك عن أعين حرس فرعون وجنده، وإنما قال الله لها: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه:٣٩]، ومعلوم أن إلقاء طفل رضيع في اليم لم تمر عليه إلا أيام معدودات مظنة هلاكه، لكنه يصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان فالإنسان يصبح في قمة الأمان إذا كان محاطاً برعاية الله، والصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر أنزل الله عليهم النعاس، والنعاس مظنة نصر لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود: أنه كل من خاف من أحد فر منه، إلا من خاف من الله لجأ إليه، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وقد قذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع، وإلا ففي العقل أنه لا تقوى امرأة على هذا الصنيع؛ لأنه مهما كان أن يبقى موسى بين يديها في بيتها تحت عينيها خير له من أن تلقيه في البحر.
فقذفته في البحر بأمر من الله، وأمر الله البحر كما يدل عليه ظاهر القرآن: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ} [طه:٣٩]، أي: البحر، وهو النيل بالاتفاق، {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ} [طه:٣٩] جواب للأمر، فجرى ذلك التابوت بقدر الله، حتى أضحى قريباً من بيت فرعون، أو من قصره، حتى آل به الأمر إلى أن تفتحه زوجة فرعون، قال الله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ} [طه:٣٩]، ما زال الخطاب لموسى، {مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:٣٩]، وحتى يحيا موسى أجرى الله السبب، والسبب أن الله قذف في قلب من يراه المحبة إلا بعض شواذ خلقه، وأول من ألقى في قلبه محبة موسى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وهذه المرأة من أربع نساء أثنى عليهن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهن: خديجة ومريم وفاطمة وآسية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ومن أخطائنا في التعبير اليوم أننا نطلق كلمة (سائر) بمعنى كل، وسائر ليست بمعنى كل، إنما المعنى: بقية، فأنت تقول: نجح فلان وفلان وفلان وأخفق سائر الطلاب، أي: باقي الطلاب، وليست بمعنى كل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عدد أولاً أربعاً، ثم قال: (وفضل عائشة على سائر النساء) أي: البقية من غير الأربع (كفضل الثريد على سائر الطعام) فالثريد غير داخل في سائر الطعام.
المقصود: أن هذه المرأة قذف الله في قلبها محبة موسى، فهرولت إلى فرعون تقول له: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:٩]، قيل -والعلم عند الله- أن فرعون قال لها: أما لك فنعم، وأما أنا فليس لي به حاجة، والبلاء موكل بالمنطق، فوقع الذي أراده فرعون، وهذا بيناه في مواطن كثيرة، لكن نقف على آيات السورة.
قال الله جل وعلا: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩]، أي: تنشأ وتهيأ على رعاية من الله وحفظ وكلأ من رب العزة والجلال؛ لأن الله ادخرك لأمر عظيم.