[تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا وإياكم نتفيء ظلال القرآن في سورة البقرة التي هي فسطاط القرآن، وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:٧٤]، وذكرنا أن الله جل وعلا شبه القلوب القاسية بالحجارة، بل جعلها أشد قسوة من الحجارة، وبينا أن الله جل وعلا عدل عن تشبيه القلوب القاسية بالحديد؛ لأن الحديد له ما يلينه، قال الله جل وعلا عن نبيه داود: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:١٠]، والحديد يلان بالنار، ولا يعرف أن الحجارة تلان بشيء آخر.
وقد بين الله جل وعلا أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، وأن منها -وهو الأعظم- ما يهبط من خشية الله.
ثم ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل، وسورة البقرة تحدثت كثيراً -خاصة في أولها- عن بني إسرائيل، وناداهم الله جل وعلا منتسبين إلى نبي الله يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا يخاطب المؤمنين: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:٧٥]، مما استقر عقلاً وطبعاً وشرعاً أن الطباع تتوارث، والله جل وعلا يخاطب المؤمنين الذين لديهم طمع في إيمان اليهود المعاصرين لهم القاطنين في المدينة آنذاك، وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع وبنوالنضير وبنو قريظة.
وهؤلاء القبائل الثلاث لابد لطالب العلم من إدراكهم؛ لأن كثيراً من القضايا في القرآن والسنة والسيرة على وجه الخصوص لا يحل إشكالها إلا بالاطلاع في التاريخ كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة.
لاحظ أن الله جل وعلا قال: (أفتطمعون) ولم ينه عباده عن الدعوة، وفرق بين الأمرين كبير، والمعنى أن هؤلاء اليهود المعاصرين هم على سنن آبائهم الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وموسى عليه السلام هو من أنبياء بني إسرائيل العظام وليس أول نبي لهم؛ لأن يوسف كان نبياً لبني إسرائيل، فإن مؤمن آل فرعون قال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:٣٤] واستطراداً اسم موسى مكون من كلمتين: مو بمعنى ماء في العبرانية، وشي بالشاء معناها الشجر؛ لأنه وجد بين ماء وشجر في نهر النيل سمي بهذا الاسم، وفي العربية قلبت الشين سيناً، وأصبحت موسى، وبالعبرانية ينطقونها بالإمالة قليلاً، وهو اسم شائع عندهم إلى اليوم، فـ موشي ديان كان وزير الحرب الإسرائيلي في حرب ١٩٧٦م، والآن موشى كاستاف الذي هو رئيس دولة إسرائيل، ليس رئيس الوزراء، رئيس الدولة اسمه موشي كاستاف، هذا كله تسمي بنبيهم السابق عليه الصلاة والسلام، فانظر حال القدوة وحال الأتباع، ولهذا نقم الله عليهم بسبب تغير حالهم.
أعود فأقول: الله جل وعلا لم ينكر، وليس في الآيات إنكار أصلاً، لكن هذا -إن صح التعبير- وعتاب رقيق للمؤمنين.
والمعنى أنت مكلف بأن تدعو كل أحد، ولا تحتج بأنه لن يؤمن، لكن لست مطالباً بأن تطمع في إيمان كل أحد، أنت مكلف بأن تدعو كل أحد، ولهذا موسى وهارون عليهما السلام دعوا فرعون مع علم الله جل وعلا الأزلي أن فرعون لن يؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا جهل بتكليف من الله مع علم الله الأزلي أن أبا جهل لن يؤمن، فالدعوة شيء، والطمع في الإجابة شيء آخر، فما كان في بعض نفوس المؤمنين من طمع دخول اليهود جملة في الدين هذا أبعده الله جل وعلا، وهذا على وجه مخاطبة الأمم على وجه الإجمال لا على وجه الإفراد، وهذا قيد مهم.
وقد ذكر الله علتين في سبب عدم وجود ذلك الطمع، علة أظهرها وعلة أخفاها، فالعلة التي أظهرها قوله جل وعلا: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:٧٥] هذه كلها علة واحدة.
والمعنى أنهم سمعوا كلام الله وعقلوه ثم حرفوه وهم يعلمون أنهم محرفون له، أي هم مصرون على التحريف، فإذا اجتمعت هذه الأربعة انتفى الطمع في إيمانهم، والخطاب هنا عن علماء اليهود وأحبارهم، هذه العلة التي أظهرها الله وهي علة مشاهدة للمؤمنين، ويجب أن يستصحبوها حتى لا يقع في قلوبهم طمع في إجابة أولئك القوم.
أما العلة التي أخفاها الله فهي علمه الأزلي أن هؤلاء لن يؤمنوا إذ لو كان في علم الله أنهم سيؤمنون لم يخاطب المؤمنين بألا يطمعوا بإيمانهم، فلو كان في علم الله الأزلي أنهم سيؤمنون لما عاتب الله المؤمنين في الطمع لأنه سيتحقق مراد الله القدري، لكن الله جل وعلا علم قدراً أنه لن يقع منهم إيمان، فكانت هذه العلة الثانية في نفي الطمع عن قلوب المؤمنين، لكنه تعبدهم بالثانية فأظهرها ولم يتعبدهم بالأولى فأخفاها.