تفسير قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم سيئه عند ربك مكروهاً)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا اللقاء الرابع المتعلق بسورة الإسراء، وكنا قد انتهينا في اللقاء الثالث إلى قول ربنا جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦].
وذكرنا أن الآية دلت على وجه الخصوص بصورة أولية على أن القول على الله جل وعلا بلا علم من أعظم الأمور المحرمة، فإن كان القول بلا علم على إطلاقه ممنوع، فكيف بالقول على الله؟! وذكرنا قصة عامر بن الضرب، وقلنا: إن عامراَ كانت العرب تفد إليه وتحتكم، فجاءه قوم يسألونه عن ميراث الخنثى؟ ثم إنه حار فيهم أربعين يوماً، وهم آنذاك كانوا أضيافه، فقالت له جارية عنده: أتبع الحكم المبال، فأخذ بقولها، قال الإمام الأوزاعي معلقاً على القصة: فإذا كان هذا رجل في الجاهلية لا يرجو جنة ولا يخشى ناراً توقف في الحكم أربعين يوماً لما لم يثبت عنده، فكيف بمن يتجرأ على القول على الله تعالى بلا علم؟ وفي ذلك عظة وعبرة لكل أحد.
ثم قال ربنا: {إنَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ} [الإسراء:٣٦]، الإشكال عند اللغويين: التعبير بأولئك عما لا يعقل، وهم يقولون في أغلبهم: إن أولئك تطلق على العقلاء، لكن كفى باستخدام القرآن دليلاً على أنها تستخدم لغير العاقل، فالقرآن أو اللفظ القرآني هو الذي يقوم مقام الاستشهاد، ولا يستشهد للقرآن بقول أحد، على أن جواب الإشكال بصورة أوضح من جهتين: أن الله جل وعلا أقام السمع والبصر والفؤاد مقام العقلاء؛ لأنها شواهد على أصحابها، ومسئولة عن ذاتها.
والأمر الثاني: أنه عرف في بعض كلام العرب إطلاقهم لها على غير العقلاء، ويحتج القائلون بهذا بقول جرير: ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأقوام فالأيام غير عاقلة، وعبر عنها بأولئك، لكن المانعين يقولون: إن البيت أصله: والعيش بعد أولئك الأقوام، فإذا كانت الرواية الصحيحة بعد أولئك الأقوام فلا جديد في بيت جرير؛ لأن الأقوام عقلاء، وبالتالي فالتعبير عنها بأولئك ملائم، لكن على القول أن الرواية الصحيحة هي: والعيش بعد أولئك الأقوام يصبح الاستشهاد قائماً؛ لأن الأيام غير عاقلة، لكن نقول: أياً كان فإن الله جل وعلا أقام السمع والبصر والفؤاد مقام العقلاء؛ لأنها مسئولة عن ذاتها، وشواهد على أصحابها، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦].
ثم مضى الأدب القرآني المبدوء أولاً بآية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣]، ثم جاءت سلسلة من مكارم الأخلاق يدعو إليها، وسلسلة من سيء الأخلاق ينهى عنها، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢]، وهنا قال: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧].
الإنسان يحيى بين جمادين، ما بين أرض يمشي عليها، وما بين جبال تحيط به، فالله جل وعلا يقول لنبيه -والمخاطب أمته من باب أولى كما يقال: إياك أعني واسمعي يا جارة! يقول: إنك مهما علوت وارتفعت فإنك لن تستطيع أن تخرق الأرض، وكلمة (تخرق) تحتمل معنيين: الخرق المعروف، والخرق الآخر بمعنى: قطعها، وقد جاء في كلام العرب: أن الخرق بمعنى: القطع، يعني: لن تستطيع أن تمضي في الأرض كلها، وحمله على الأول أقرب، وهو الخرق المعروف من الدوس، فيصبح معنى قوله تعالى: {َلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧]: أن الله نهى نبيه عن الكبر، وعن مشية الفخر والخيلاء، فإذا قلنا: مشية بفتح الميم فهذا اسم مرة، يقول: ضربته ضربة أي: ضربة واحدة، أما على وزن فعلة بكسر الميم فهو اسم هيئة، المقصود: أن الله نهى نبيه عن مشية الجبارين المتكبرين، الذين يختالون في الأرض فرحاً وبطراً، هذا المنهي عنه: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧]، كلمة (طولاً) عند النحويين تمييز محول عن فاعل، ومعنى الكلام: لن يبلغ طولك الجبال، تقول في الكلام العادي: ازدانت المدينة مدخلاً، وأصلها: ازدان مدخل المدينة، وتقول: طاب عمرو نفساً، وأصلها: طابت نفس عمرو، فالتمييز هنا محول عن فاعل، ومثله قوله جل شأنه: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧]، أي: ولن يبلغ طولك الجبال، والمقصود: النهي عن الكبر؛ لأن أصل الكبر: شيء يقع في النفس، فإذا وقع في النفس ولو كان مثقال ذرة نجم عنه أثر في الظاهر، وبحسب تمكن ذلك الكبر في القلب يكون ذلك الأثر، فمن ألجم نفسه بلجام التقوى منعه ما في قلبه من طلب العلو، ومن لم تمنعه التقوى انطلق في عنانه ومضماره كما قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]؛ لأنه لا لجام للتقوى عنده يمنعه من أن يقول هذا القول، وإلا فبذرة الخير والشر في كل أحد موجودة: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:٣٧ - ٣٨].
قرئت (سيئةً) وقرئت (سيئهُ)، فعلى قراءة سيئة يصبح المعنى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُة عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:٣٨]، فتنصرف (كل) إلى ما نهى الله جل وعلا عنه.
أما على قراءة (سيئه) يصبح (كان سيئه) تخصيصاً من كلمة كن؛ لأننا أمرناك بأحاسن الأخلاق: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:٢٦]، {َبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:٨٣]، ونهيناك عن سيئها، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام:١٥٢]، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢]، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الإسراء:٣١]، فيما مضى من الآيات، فيصبح (كان سيئه) أي: ما مضى خاصة السيئ منه مكروهاً عند الله، فيفهم منه: أن غير السيء ليس مكروهاً عند الله.
قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:٣٨]، ذلك جملة ما علمناك مما أوحى إليك ربك من الحكمة، وهنا نربط الآية بما حررناه في السنة في أول لقاء حول سورة الإسراء، فقد قلنا: إن قلب النبي صلى الله عليه وسلم ملئ إيمانا ًوحكمة، وعقبنا على ذلك بأن الحكمة أجل ما يعطاه بنو آدم بعد الإيمان، وعلى هذا فقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء:٣٩]، يعضد هذا الاستنباط من السنة، وهو أن الحكمة أعظم شيء بعد الإيمان، ثم بين الله جل وعلا المرء بالحكمة، والحكمة عند البعض تقوم على ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة.