الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الثامن في تفسير سورة الأنعام، وقد سبقته -ولله الحمد- سبعة دروس، وآخر الآيات التي تأملنا فيها هي قول الله جل وعلا:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام:٢١]، وقلنا: إن الاستفهام هنا استفهام إنكاري، والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته.
وقبل أن أشرع في الآيات التي بعدها أذكر مقولة تكتب في سويداء القلب قبل أن تكتب في صفحات الواقع، وهي في قول الله جل وعلا:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الحجر:٨٧ - ٨٨].
حيث يتحرر من الربط والمناسبة بين الآيتين مقولة تقول: من أوتي القرآن ثم ظن أن أحداً أوتي من الدنيا أعظم مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً.
بمعنى أنه جعل للدنيا أكثر من قدرها، وصغر عظيماً فلم يعرف قدر القرآن؛ لأن الله قال:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:٨٧]، ثم نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يمد عينيه إلى متاع الدنيا، وقال له:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ}[العنكبوت:٥١]، فمن حمل القرآن حملاً صحيحاً حفظاً ووعياً وتدبراً فهو سيد العلماء بلا شك، وفي هذا مقولات ذكرها الأئمة كما نص عليها الزركشي رحمه الله تعالى في البرهان.
والذي يعنينا هنا أن استصحاب هذا الأمر يهون على طالب علم التفسير الكثير من الصعاب إذا تفكر في كونه يتدارس كلام الله جل وعلا، ومن عظمة كلام الله أنه يمكن لأي رجل بحسب ما أعطاه الله من علم أن يبحر في شتى الفنون وجميع العلوم من خلال آيات الكتاب؛ لأن القرآن مهيمن، وكذلك علم التفسير مهيمن على سائر العلوم، وقد قال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: كل العلوم تفيء إلى القرآن، ثم قال: ما السنة كلها إلا في آية واحدة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:٧].