سؤال موسى عليه السلام لربه أن يجعل هارون وزيراً له
ثم قال عليه السلام لربه يناجيه ويرجوه:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي}[طه:٢٩ - ٣٠]، كلمة (من أهلي) عامة، ثم خصص وعين فقال:{هَارُونَ أَخِي}[طه:٣٠]، وقوله:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا}[طه:٢٩] كلمة (وزر) في اللغة مادتها الأصلية تعني الثقل، يقول الله جل وعلا:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:١٦٤]، والمعنى: لا تتحمل نفس ذنب أخرى ولا ثقلها، فالذنوب وزر؛ لأنها أعظم ما يحمل على الظهر، وفي القديم لم يكن هناك وزراء كثيرون، وإنما الوزير واحد، كما كان هامان وزيراً لفرعون، فكان الوزير في النظام القديم السياسي للدول واحداً للأمير أو للملك أو للسلطان، بحسب مسماه، وهذا الوزير هو الذي يحمل ثقل الإمارة عن الأمير، فلذلك سمي وزيراً، فلا تعارض بين الجذر اللغوي لكلمة (وزر) وبين قول نبي الله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[طه:٢٩ - ٣١]، يطلب من الله أن يجعل أخاه هذا مما يشد به الأزر، وسيأتي التفصيل في هذا في خاتمة الدعاء.
قال:{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه:٣٢]، الهاء في (أشركه) عائدة على هارون، وقوله:(فِي أَمْرِي)، أي: أمر النبوة والرسالة، فقال العلي الكبير لعبده موسى:{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[طه:٣٦]، فأضحى هارون عليه السلام نبياً رسولاً بشفاعة أخيه موسى؛ ولهذا قالوا: إنه لا يعلم أن أخاً أمن على أخيه من منة موسى على هارون، ولهذا قال الله في نعت كليمه موسى:{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}[الأحزاب:٦٩]، أي: له قربى وزلفى وجاه عند الله، ولهذه الوجاهة التي عند الله أضحى هارون نبيناً ورسولاً، وقد مرت عائشة رضي الله عنها وأرضاها على رجلين في الحج يسأل أحدهما الآخر، قال له: هل تعلم أي أخ أعظم منة على أخيه؟ فقال الآخر لا أدري، فقال الذي سأل: أنا أعلم، إنه موسى بمنته على هارون، فبفضل دعاء موسى أضحى هارون نبينا رسولاً، فقالت عائشة رضي الله عنها معلقة: صدق والله: أي: صدق والله فيما قال: والأخوة منها أخوة الإيمان، ومنها أخوة النسب، ومنها أخوة الصداقة والاتفاق في العيش أو في الذكرى، وأعظمها إذا اجتمعت: أخوة إيمان، وأخوة نسب، وأخوة علاقة أو صداقة أو رفقة أو جيرة أو ما شابه ذلك، أو زمالة، والعرب تقول: إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك والإنسان يحتاج إلى من يكون معه في السراء والضراء، ولا يدخر الإنسان للسراء والضراء أعظم من إخوانه، لكن العرب تقول: إن ذلك الأخ -ويعبرون عنه بالخل الوفي- هو ثالث المستحيلات.
والمستحيلات عند العرب ثلاثة: اثنان منها يتعلق بالدواء، فيقولون: الغول يخوفون به، ولا حقيقة له، والعنقاء طائر يخوفون به، ويتحدثون عن شيء كثير من أساطيره ولا حقيقة له، ولكنهم يجمعون إلى ذلك الخل الوفي، فيقولون: إن ثالث المستحيلات الخل الوفي.
وقد يكونون أصابوا في الأولى، لكنهم أخطئوا في الثانية، فكم من خل وفي موجود، وهذا لا يحتاج إلى شواهد، وأعظمها أخوة الصديق لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر موسى عليه السلام القضية الأساسية من هذا كله، قال:{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}[طه:٣٣ - ٣٥]، فذكر الله من أعظم العبادات وأجل الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم:(سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
وبعد أن سأل موسى ذلك قال الله تعالى:{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[طه:٣٦]، وهذه منة من الله على موسى، لكنها ليست بأول منة.