للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح)، واختلاف الناس في حقيقة الروح]

ثم قال الله بعدها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:٨٥]، ونلحظ من صيغة الآية أن فيها تجهيلاً لمن سأل ولم يرد له ذكر؛ لأن سبب سؤاله التعنت والمراء الذي لا طائل من ورائه، ولهذا أجابهم الله جل وعلا عن سؤالهم، لكنه عاملهم بالتجاهل لهم فلم يذكرهم.

وفي الصحيح وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه عبد الله بن مسعود، فمر على ملأ من يهود -هذا على القول: أن هذه الآية مدنية، وقول آخر: أنها نزلت مرتين- فمر على يهود فقال بعضهم لبعض: سلوه؟ فسألوه يا: أبا القاسم! ما الروح؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل، قال ابن مسعود: فعلمت أنه يوحى إليه، ثم تلا عليهم الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥].

وسنتكلم عن هذه الآية من وجوه: الأول: ما المقصود بالروح؟ قال بعض العلماء: المقصود بالروح هنا: القرآن، وحجتهم: أن الله سمى القرآن روحاً، كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:٥٢].

وقال بعضهم: إن الروح هنا بمعنى: عيسى بن مريم، فيصبح السؤال عن عيسى، ومن أدلة ذلك: أن الله جل وعلا سمى عيسى بن مريم روحاً، قال تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:١٧١]، في تسميته لعيسى عليه السلام.

وآخرون قالوا: إن الروح هنا ملك عظيم الخلقة، وعنوا به قول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} [النبأ:٣٨].

وقال آخرون: بل هو جبريل عليه السلام، واستدلوا بقوله سبحانه: {سفَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:١٧].

والذي يترجح -والعلم عند الله- أن الروح هنا بمعنى: القرين بالبدن، وهي النفس.

قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥]، وهذا اختصاص علمي، وليس اختصاصاً خلقياً.

فإن قيل: فما معنى: الاختصاص العلمي، والاختصاص الخلقي؟ ف

الجواب

الآن كون آدم عليه السلام خلقه الله بيده هذا اختصاص خلقي، فخص الله جل وعلا آدم بخصيصة لم يعطها سائر الخلق؛ لأنه خلقه بيده، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يخلقه الله بيده، فهذا اختصاص خلقي، وأما الروح فليس لها مزية في خلقها عن سائر المخلوقات، لكن لها اختصاص علمي؛ في أن الله جل وعلا أخفى كنهها، فلا يعرف سرها أحد.

فهذا معنى سقول الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] ثم قال الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، وما هنا: نافية قطعاً، وفيها دلالة على فضل العلم، وعلى أن علم بني آدم مهما امتد ففيه ضآلة جداً أمام علم الله، وأعظم شاهد على ذلك قصة موسى والخضر، وذلك الطير الذي نقر في البحر فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر.