تفسير قوله تعالى:(قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}[الأعلى:٤ - ٥]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى الآية السادسة والتسعين من سورة البقرة، ونشرع اليوم مستفتحين بقول الله جل وعلا:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:٩٧].
هذا ما زال الكلام في سياق الحديث عن اليهود، واليهود أئمة ضلال، وضلالهم مبني على ردهم للأشياء الواضحات والآيات الظاهرات، وهذا قوام ما هم عليه اليوم، ليس قوام دينهم الذي جاء به كليم الله موسى.
وقد ذكر المفسرون رحمهم الله في تفسير هذه الآية أن فئة من اليهود المستوطنين في المدينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا كثيراً ما يقدمون عليه وينادونه إما باسمه: يا محمد أو بكنيته: يا أبا القاسم، فجاءوه مرة على اعتبار أنهم ينشدون الهدى، فسألوه أسئلة فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً للشرع، وإقامة للحجة عليهم، فلما فرغوا من أسئلتهم وفرغ النبي من إجابته قالوا: بقيت واحدة.
(قال: ما هي؟ قالوا: من وليك من الملائكة؟ قال: وليي من الملائكة جبريل.
قالوا: هذا الذي ينزل بالحرب والقتال، لو كان وليك من الملائكة ميكال الذي ينزل بالقطر والماء لاتبعناك) ففرقوا بهذا القول بين ملائكة الله جل وعلا، وردوا على الله جل وعلا أمره، واعترضوا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل العلي الكبير قوله:(قل) والخطاب للنبي، {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}[البقرة:٩٧] ومناسبة الربط بين قول الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}[البقرة:٩٧] أن إنزال القرآن بواسطة جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم يستوجب موالاته لا معاداته عليه السلام، فهم تعاملوا بالنقيض، فجعلوا هذا الخير الذي أعطاه الله لجبريل موجباً للعداوة، ولم يجعلوه موجباً للموالاة وهو الحق، فأنكر الله عليهم صنيعهم هذا قائلاً:{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:٩٧] مصدقاً لما بين يديه من الكتب السماوية، ولما سيكون فيه من الأخبار الصائبة التي لا لبس فيها، فهو هدى للمؤمنين يبين لهم معالم الحق، ويحمل في طياته البشارة، وأعظمها وقوع وعد الله تبارك وتعالى.