للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى إلى قوله: وما كان عطاء ربك محظوراً)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: هذا اللقاء الثالث حول سورة الإسراء، وكنا قد انتهينا عند قول ربنا جل وعلا: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، أما أول الآية فهي جملة شرطية ظاهرة المعنى، أن الإنسان إذا وفق للهدى فإن ثواب تلك الهداية عائد عليه، وكذلك إذا حاد الإنسان عن الهدى وسلك طريق الضلالة فإن عاقبة ذلك ووباله وخسرانه عليه.

قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:١٥] هذا من قواعد الشرع التي أخبر الله عنها في الحساب يوم القيامة، ذلك أن العرض الأكبر على الله له قواعد، ومن أهم القواعد: أنه لا تؤخذ نفس بجريمة نفس أخرى، قال الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:١٥]، من قواعد الحساب: إقامة الشهود: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:٦٩]، ومن قواعد الحساب: أن الله جل وعلا لا يظلم الناس مثقال ذرة.

ثم قال الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥] أول ما نستفيده من هذه الخاتمة: أن ما هنا: نافية.

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥] دلالة ظاهرة على أن الدين يجب بالسمع لا بالعقل، فمن يقول: إن الناس يكفيهم بالعقل أن يناط بهم التكليف، هذا خلاف الصواب، وإنما لا بد من السمع عن الله عن طريق الرسل؛ ولهذا قال الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥] أي: لا تكون حجة حتى يكون هناك رسول، وهذا الخبر القرآني هنا أثبته الله جل وعلا في أكثر من موضع، قال الله جل وعلا: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥] معنى الآية: أنه لو لم يكن رسل لكان للناس على ربهم حجة، والله جل وعلا ذكر أهل النار وذكر أنهم يلقون فيها أفواجاً، قال سبحانه: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:٨ - ٩] وهذا هو نظر العلماء للحديث عمن لم تبلغهم الرسالة، والآية محكمة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، وأنا لا أستطيع أن أقف حكماً بين العلماء، ولكني أعطيك طرائق العلماء.

الإشكال الوارد: أنه ثبت في نصوص صحيحة: الإخبار عن أفراد أنهم في النار، رغم الاتفاق أنه لم تصلهم رسالة، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن لحي الخزاعي: أنه يجر قصبه في النار، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن صاحب المحجن، وإخباره عن غيرهما، مع أن الآية ظاهرة في أنه لا تعذيب بدون إقامة حجة إذا ضممناها إلى آية تبارك: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:٨] وبعض أهل العلم يقول: نتوقف ونأخذ بالحديث الصحيح: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وهذا لعله أقرب؛ لأن القول بأن أهل الفترة الذين قبل النبي صلى الله عليه وسلم هم مطالبون برسالة إبراهيم وإسماعيل أمر يرده القرآن؛ لأن الله يقول: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:٤٤]، فربنا يبين أن ليس لهم كتاب وليس لهم نذير، وقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:٤٦] فالله جل وعلا يخبر أنه لا نذير سبق إليهم، فهذا هو مجال البحث في الآية، وقلت: إنني أقف حكماً بين أقوال العلماء، قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، وقد قرئت (أمرنا) بالتشديد وبالتخفيف، وقراءة التخفيف مجمع عليها، والصواب حملها على التخفيف ليصبح معنى الآية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:١٦] أي: سبق في قضائنا وقدرنا أن قرية ما ستهلك.

{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:١٦]، لكن الله لم يذكر الذي أمروا به، لكن دل العقل عليه، أي: أمرناهم بالطاعة.

{فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:١٦] أي: خرجوا عن الطاعة.

{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:١٦] فيصبح معنى الآية: أن الله جل وعلا إذا سبق في قضائه وقدره الأزلي أن قرية ما ستهلك، فإن الله جل وعلا يأمرهم بأوامره، والأسباب مرتبة على مسبباتها، فيفسقون ويخرجون عن الطاعة ويحيدون عن الهدى، فيحق عليهم العذاب بذلك، قال الله: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:١٦].

ثم قال الله بعدها: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء:١٧]، والقرن: هو الجيل، وبعضهم يقول: إنه قرابة مائة عام، وكم هنا: خبرية وليست استفهامية، وقلنا في دروس سبقت وأيام مضت: إن الفارق الأشهر بين (كم) الخبرية و (كم) الاستفهامية: أن كم الخبرية لا تحتاج إلى جواب، وكم الاستفهامية تحتاج إلى جواب، ولا بد أن تلم بلغة العرب حتى تملك الآلة في فهم القرآن، ويتفقان -أي: كم الخبرية والاستفهامية- في أمور أشهرها: أن كلاهما مبني، وكلاهما له الصدارة في الكلام.

قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء:١٧]، ولم يذكر الله أمماً وقروناً أهلكها من قبل نوح؛ لأنه لم يكن هناك شرك قبل نوح، ولم يكن هناك رسل حتى يكذبوا، وإنما نوح هو أول الرسل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:١٧].

ثم قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:١٨ - ١٩]، عبر الله عن الدنيا بالعاجلة من باب الكناية، قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء:١٨]، لكن الله ذكر قيداً وهو قوله سبحانه: {لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨] والقيد هنا يجري حكمه وتحقيقه على ما أطلقه الله في آيات أخرى، قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:١٥]، لكن هذا الإطلاق مقيد بآيات الإسراع بقوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨] و (ثم) للتراخي والتعقيب، (ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً)، ولما ذكر الله بغاة الدنيا، ذكر طلاب الآخرة فقال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:١٩] والمعنى: أن هناك سعي خاص بالآخرة، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:١٩] والسعي الخاص بالآخرة: هو موافقة شرع نبينا صلى الله عليه وسلم، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:١٩] وهذا تحقيق للإخلاص، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:١٩] أي: أن الله جل وعلا يثيبهم على صنيعهم، ثم قال: {كُلًّا} [الإسراء:٢٠]، والتنوين هنا: عوض عن محذوف، أي: كلاً ممن يريد العاجلة، وكلاً ممن يريد الآخرة، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ} [الإسراء:٢٠] طلاب الآخرة، {وَهَؤُلاءِ} [الإسراء:٢٠] بغاة الدنيا، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء:٢٠] أي: من رزق ربك، ثم قال الله: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:٢٠] يجب أن نقول: إن حكمه (عطاء) هنا المقصود بها: الرزق في الدنيا، قال: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:٢٠] أي: ممنوعاً، فإن قال لك قائل: ما هو دليلك على هذا؟ نقول: إن الكافر ليس له حظ في الآخرة، فلا يعقل أن يقال عنه: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:٢٠] لكن الله في الدنيا يرزق المؤمن ويرزق الكافر، ويرزق الشقي ويرزق السعيد، ويرزق البر ويرزق الفاجر.

ثم جاء الخطاب لسيد الخلق وصفوتهم: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:٢١] وهذا أمر مشاهد في الدنيا، فإنه حتى طلاب الآخرة يتفاضلون فيما أعطوا من الإيمان والعمل الصالح، وطلاب الدنيا يتفاضلون فيما أعطوا من غنىً ونحوه، قال: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:٢١] ثم لا تحسبن أن هذا هو نهاية المطاف، قال تعا