[تفسير قوله تعالى:(فتولى فرعون فجمع كيده وقد خاب من افترى)]
قال الله تعالى:{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى}[طه:٦٠].
ولا ريب أن ما بين هذا اليوم الذي تواعدا فيه وما بين اليوم الموعد نفسه فترة زمنية، وهذه الفترة الزمنية تسمح للناس بأن يخوضوا، وللخبر أن ينتشر، ويصبح لا هم للناس وليس هناك خبر يسري مثل هذا الخبر، فيصبح الجميع مهيأ لأن يصل، ويريد أن يعرف أين الحق، لكن الناس حتى في معرفتهم للحق يتفاوتون، قال الله جل وعلا:((فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ))، كيف جمع كيده؟ بينه الله في آيات أخرى بقوله:{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:٥٣]، وبعث بعد ذلك أن يأتي السحرة من كل مكان، وهذه الفترة الزمنية علا فيها قدر السحرة؛ لأنه غلب على ظنهم أن أمر فرعون أصبح بيدهم، فالآن القوة السياسية التي كانت بيد هامان تنحت قليلاً، والقوة المالية التي كانت بيد قارون تنحت قليلاً، وجاء دور قوة الإعلام الذي كان متمثلاً في السحرة.
فأراد السحرة لأنفسهم منازل، أرادوا أن يشترطوا على فرعون شروطاً تجعلهم أرفع منزلة بعد الغلبة، قال الله في آية أخرى:{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الشعراء:٤١ - ٤٢]، فأعطاهم فرعون وعوده، وأغراهم بالمال وعلو المنازل، فجاء السحرة وهم مدفوعون دفعاً دنيوياً عظيماً، وجاء الناس، لكن الناس كان الدافع لهم أن يروا انتصار السحرة، قال الله جل وعلا عن الناس:{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:٤٠].
ولم يأتوا ليعرفوا أين موطن الحق، وأين مكمنه، وإنما جاءوا لينظروا كيف سوف تغلب السحرة موسى عليه السلام وأخاه.
ولكن مع ذلك أنبياء الله يبقون رفيقين بالخلق، قال الله جل وعلا:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[طه:٦١]، (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: بصنيعكم، وبردكم للرسالة:{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}[طه:٦١]، فخوفاً من نزول العذاب عليهم حذرهم؛ لأنه لا مصلحة للنبي في هلاك قومه، والأنبياء أرحم الخلق بالخلق، وأنصح العباد للعباد، لكن إذا أبى واستكبر ذلك المدعو، وأعرض عن الله، وجعل كلام الله وراءه ظهرياً، وحقت عليه كلمة العذاب؛ فإن كلمة العذاب لا تحق إلا على هالك، فإذا هلك من هلك بعذاب الله فلا ينبغي لمؤمن أن يأسف عليه ولا أن يحزن؛ لأنك لست أرحم بالخلق من ربهم، قال الله عن أنبيائه أنهم يقولون عن أممهم بعد الهلاك:{فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}[الأعراف:٩٣]، فلا يصيبهم أسى على قومهم بعد هلاكهم، ولكن الرحمة تبقى ما زال هناك أمل في أن يهتدوا.
وقوله:((فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى))، ولا افتراء أعظم من الافتراء على الله جل وعلا، وأعظمه قول فرعون:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:٣٨]، وتصديق هؤلاء الناس لفرعون، واتخاذهم إياه إلهاً من دون الله.