تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وحسن مرتفقاً)
لما ذكر الله الأشرار أتبعه جل ذكره بذكر الأخيار، قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:٣٠].
فكل من عمل صالحاً، وقد آمن وأراد بذلك وجه الله فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:٤٠] وسيأتي بيان هذا في موطنه.
(أولئك لهم): أي: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، {لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:٣١]، عدن في المكان بمعنى: أقام فيه وخلد، ولهذا سميت جنات عدن بذلك؛ لأنها دار خلود وإقامة.
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:٣١] أنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من غسل مصفى، وأنهار من ماء غير آسن، والقرآن يوضح بعضه بعضاً.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:٣١].
وجاء في بعض الآيات أنها أساور من فضة، وجاء في بعض الآيات أنها أساور من لؤلؤ، ويجمع بينها: أنهم يحلون بأساور من ذهب، وأساور من فضة، وأساور من لؤلؤ تبلغ منهم ما يبلغه الوضوء كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة.
{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف:٣١].
السندس: رقيق الحرير، والاستبرق: غليظ الحرير، وجمع الله جل وعلا لهم النعمتين، وعندما أهديت له صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير فلمسها الصحابة وتحلقوا حولها قال: (أتعجبون من رقتها؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه) أو أفضل من هذه، أو أرق من هذه، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
والمقصود: جملة ما أعطاه الله جل وعلا من نعيم لأهل الجنة، وكون الثياب خضراً، هذا الذي كان لباس الملوك في الجاهلية، ولباس ملوك العرب في جاهليتهم، (خضر المناكب) وهذا شطر آخر بيت للنابغة الذيباني.
والمقصود: أن الخضر كانت نوعاً من اللباس الذي يتجمل به أعالي القوم، فعاملهم الله جل وعلا بجنس صنيعهم.
{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣١].
السرير إن جلس عليه فهو عرش، وإن وضع عليه ميت فهو نعش، وإن لم تضع عليه لا ميت ولا ملك وإنما نمت عليه فإنه يسمى سريراً.
شيء آخر اسمه: الحجال، الحجال قباب من ثياب مزخرف بعضها فوق بعض، كان النساء في ذلك الزمن ينمن عليها، ولهذا يقال: للمرأة أو للنسوة ربات الحجال أي: عاكفة على الحجال تنام فيه، فإذا هذا السرير وضع عليه الحجال أي: ظهرت له أعمدة، وغطي بثياب مع أن الصورة ظاهرة فإنه يأتي له بأعمدة أربعة عالية، ثم يغطى أشبه ما يتقى به البعوض، ثم وضعت عليه ألحفة وشراشف وأشباهها، هذا كله جملة مجموعه يسمى: أريكة، وقد كان هذا النوع من الطرائق في النوم، أو من الأمكنة في النوم من حال أهل الترف وما زال.
المقصود: قال الله: ((مُتَّكِئِينَ فِيهَا)) أهل طاعته، ((عَلَى الأَرَائِكِ)) الذي صورتها لك.
وبعد أن قال: ((بِئْسَ الشَّرَابُ))، قال: ((نِعْمَ الثَّوَابُ)) ولم يقل الشراب؛ لأنه لم يذكر الشراب هنا، والثواب: يطلق على الجزاء الحسن، والجزاء السيئ قال الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} [المائدة:٦٠].
وكما قال في الأول: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٢٩] قال هنا: (حسنت) على بابها ففي الأولى قلنا: ليست على بابها، لكنها هنا على بابها، لأن الاتكاء من الإعياء والراحة لا يطاق على عذاب أهل النار، وإنما تهكم الله بهم، وهنا جاءت على بابها الأصلي: أنهم يتكئون اتكاء راحة نعتها رب العزة والجلال بقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣١].