[تفسير قوله:(وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)]
ثم قال الله عنهم:{وَقَالُوا -أي: القرشيون- لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:٣١]، فالجار والمجرور نحوياً تملك قوة في ضعفها، فالمرأة قوتها في ضعفها، فبعض الضعفاء قوتهم في ضعفهم، فقد يأتيك رجل ولا يوجد له مقعد، ويأتي معه بصبي صغير، فأين قوة الصبي الصغير؟ في ضعفه؛ لأنه من السهل أن تجد له مكاناً، ومثلها أيها المبارك الجار والمجرور، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:٣١]، ولو سألتك ما إعراب كلمة (عظيم).
فستقول: صفة لكلمة رجل، والمعنى:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ}[الزخرف:٣١] عظيم من القريتين، ومعلوم قطعاً وجود الاتصال ما بين الصفة والموصوف، وقد فصل بينهما الجار والمجرور (من القريتين)، فهو شبه جملة أقحمه هنا، ويعطي نوعاً من الصياغة اللفظية والسبك بما لا مزيد عليه، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ}[الزخرف:٣١] والقريتان المقصودتان هنا هما مكة والطائف بالاتفاق وكل لفظ قرية في القرآن يعني بها مدينة، وقول الجغرافيين ليس له علاقة بقول رب العالمين؛ قول الجغرافيين: إن القرية هي كذا كذا وتقل عن المدينة في وصف معدود، هذا اصطلاح لا مشاحة فيه، لكن القرية في اللفظ القرآني بمعنى المدينة، قال الله تعالى:{لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}[الأنعام:٩٢].
وكانوا القرشيون يزعمون -في قول جمهور أهل العلم- أن القرآن هذا أحق به رجلان: الأول: عروة بن مسعود من أهل الطائف، والوليد بن المغيرة من أهل مكة، وأياً كان من قصدوه بهذه الطريقة التي قالوها وهي باطلة في أصلها فقد أخطئوا في أنهم لم يعرفوا ما هو المعيار في قدر الرجال، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم حتى بالمقاييس غير الشرعية كان أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه.
نعود فنقول:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:٣١]، مر معنا أن الجواب الإلهي يتحرى ويتوخى إبهام الخصم، وبينا في مسألة:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}[الزخرف:١٩] أنهم ارتقوا بالملائكة وفي نفس الوقت وصفوهم بأنهم إناث، وهنا يقول الله لهم:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الزخرف:٣٢]، ومعنى الآية أن الله يقول لهم: أنتم تعترفون أن الأرزاق إنما يقسمها الله، وهذا لا خلاف فيه عندكم، ومعلوم أن عطاء النبوة أعظم من عطاء الأرزاق، فإذا كنا لن نسند إلى أحد من الخلق تقسيم الأرزاق فكيف نسند إليه تقسيم النبوة؟! هذا هو المعنى المقصود من الآية.
إذاً فكلمة (رحمة) في الأول بمعنى النبوة، {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) هنا المقصود بها النبوة، (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ}[الزخرف:٣٢] اللام هنا للتعليل؛ ولهذا نصب الفعل، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}[الزخرف:٣٢] أي: أن الله جل وعلا لم يجعل الناس على منزلة واحدة: خادم ومخدوم، وأمير ومأمور، ملك ومملوك، عبد وحر؛ حتى تستقيم الحياة، وعلى هذا طبعت الدنيا وجبل الكون، حتى يستقيم الأمر وينتفع الناس جميعاً.
{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:٣٢]، والرحمة هنا الصواب عندنا أنها بمعنى الجنة، رحمة الأولى بمعنى النبوة، ورحمة الثانية بمعنى الجنة، قال الله تعالى:{وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:٣٢].