[تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم)]
قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:١٩] بعثهم هنا بمعنى: أيقظهم من سباتهم.
{لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:١٩] مازال الحديث عن أهل الكهف.
وهنا {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الكهف:١٩] يعني تكلم أحدهم: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:١٩] وكأنه شعر بطول المدة.
وهنا أدخل الأحوال النفسية في الخطاب.
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:١٩]، وهؤلاء الفتية نعتهم الله جل وعلا بأنهم ذوو هدى، فلو كان هناك تغير في أجسادهم بأن طالت أشعارهم أو أظفارهم، أو انحنت ظهورهم أو دب على رءوسهم المشيب، لما قال القائل منهم: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:١٩]؛ لأنه محال أن يقع هذا في يوم أو في بعض يوم، وهذا لا يختلف عاقل في إدراكه، فدل هذا القول على أنهم لم يتغير منهم شيء.
{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:١٩]، ونقول مراراً عند تفسير هذه السورة: إن الإنسان مكلف بما هو فيه، فلك الساعة التي أنت فيها، والماضي تستسقي منه، لكن لا يكون مثبطاً لك ولا تركن إليه دون عمل.
مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم فسيروا كما ساروا على الدرب واسمعوا ولا خير في الماضي إذا لم يكن له من الحاضر الزاهي بناء مرفع وهذا للاستشهاد في الأعمال ليس للاستشهاد في الألفاظ فإنه لا يقبل في الألفاظ.
نعود فنقول: إن الله جل وعلا قال هنا أنهم تساءلوا فلما علموا أن التساؤل في الأمر القديم لا ينفعهم لجئوا إلى المشكلة التي يعاصرونها، وهي: أن لهم سنين دون طعام، فهم جوعى يحتاجون إلى ما يسد رمقهم وجوعهم.
فقالوا: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:١٩] أي: ما زالوا يملكون فضة، وفهم منها بعض العلماء أنهم أبناء أثرياء.
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:١٩] الورق هو الفضة، والفضة قرينها الذهب، والذهب والفضة مالان يقال في نعتهما: ربويان وزكويان، والمعنى أن فيهما الزكاة بخلاف ما لا يعد للتجارة كبيت الرجل، وخيله، ودابته فهذا لا يقال عنه مال زكوي؛ لأنه ليس كذلك إلا إذا أُعِدَّ للتجارة، ولا يقال عنه مال ربوي؛ لأنه لا يدخله الربا وليس من أصناف الربا، لكن الذهب والفضة من أعظم زينة الدنيا التي يدخلها الربا، والزكاة تكون فيهما.
قال الله جل وعلا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:١٩] وكأنهم يعيشون بيننا، فأرادوا أن يوصوا أحدهم ليشتري لهم طعاماً طيباً.
{أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:١٩] قيل أزكى بمعنى: أطيب، وقيل: أغلى، واللفظ يحتمل المعنيين، وهذا يدل على أنهم كانوا أبناء أغنياء.
{فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:١٩] (وليتلطف) تفيدك في أن الإنسان من حق نفسه عليه في مسيرته الدعوية والعلمية وحياته الاجتماعية أن يكون حريصاً على أن يبحث عن الأمان لنفسه، ولا يعرض نفسه للمهالك.
يقول عليه الصلاة والسلام: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، ففي الفترة المكية جاءه أبو ذر أو أحد الصحابة وكان يجهر بالدعوة فقال عليه الصلاة والسلام: الحق بقومك، فإذا سمعت أن الله أظهرني تعال واقدم علي.
لأن هذا الصحابي الجليل آنذاك لا يصلح وسط تلك الفئة؛ لأن فيه نوع من الجرأة، والمرحلة آنذاك لا تحتاج إلى جرأة بل تحتاج إلى نوع من السكينة والطمأنينة.
والمقصود أن المرء يحتاج في مسيرته إلى ألا يشغب على نفسه، ولا يدل الحاسدين عليه، هذا من الحكمة التي أمر الله جل وعلا بها، ودل عليها قول الله عن أهل الهداية: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:١٩]، لا أي: يحاول أن يدل الناس والأعداء علينا.