للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً)

ثم قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٦ - ١٠٧]، هذه إحدى آيات السؤال في كلام ربنا الكبير المتعال, وآيات السؤال متعددة في القرآن وقد جاءت في القرآن المكي والقرآن المدني، وقد أفرد لها الشيخ عطية محمد سالم كتاباً خاصاً أسماه: آيات السؤال والجواب في آيات الكتاب، فمنها ما يتعلق بالتشريع كالسؤال عن المحيض، والسؤال عن أموال اليتامى، والسؤال عن الأهلة، والسؤال عن الخمر، ومنها ما يتعلق بالأمور الغيبية وما سيقع كهذه الآية: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ) وكقوله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف:١٨٧]، وبكل أجابه الله.

قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:١٠٥]، الجبال خلق من خلق الله عظيمة الهيئة، ولأنها عظيمة الهيئة فقد لفت الله الأنظار إليها فقال: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:١٩]، والله تبارك وتعالى إذا استقر في الأذهان عظمة شيء يربطه بعظمته، فأين ربط الله عظمة الجبال بعظمته؟ ربطها لما تكلم عن إنكار نسبة الولد إليه فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:٨٧ - ٩١].

فهي على عظمتها تخر إذا بلغها أن أحداً من الخلق زعم أن لله صاحبة أو ولداً، فربطها جل وعلا بعظمته ثم لعظيم خلقتها بين الله جل وعلا أنها من جملة من يعبده فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:٤٤] وهذا عموم، ثم ذكر لها خصوصاً فقال: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص:١٨]، ذكر جل وعلا تسخيرها لداود عليه السلام أنها تسبح معه صلوات الله وسلامه عليه فهذا من جملة كيف يربطها الله جل وعلا بذاته العلية.

كذلك استقر في الأذهان أن الجبال شيء عظيم حتى في اللغة، فمن أراد أن يمدح أحداً شبهه بالجبل، يقول الفرزدق في رده على جرير: فادفع بكفك إن أردت بناءنا ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل يقول له: إذا أردت أن تهدم ما بناه أجدادي فإن صنيعك كمن يأتي إلى كهلان -وهو جبل عظيم كبير في الحجاز- يريد هدمه أو تحريكه بيده، وهو لن يستطيع، فمقام أجدادي وما دونوه مثل هذا الجبل.

ويقول آخر: كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا فقوله: في الجبال: هي الجبال المعروفة، وكنا جبالاً أي: ثابتين راسخين، ويقول حسان: شماريخ رضوى عزةً وتكرما ورضوى جبال ما بين المدينة والعيص بعد ما تنتهي من ينبع النخل تأتيك على شمالك، وقد رأيتها عالية شاهقة جداً، وهي كالشماريخ تماماً وكأن حسان يرسمها رسماً ولا يصفها وصفاً.

والمقصود: أن الجبل استقر في الأذهان علو هيئته، ولهذا لما ربطه الله بعظمته وفتن الناس به أراد الله أن يبين إلى ماذا سيصير في النهاية، وقد جرت سنة الله في خلقه كما قال عليه الصلاة والسلام في ذلك القعود الذي سبق ناقته: (حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)، والعامة يقولون: كل شيء له سبع، أي: له آفة تذهب هيبته.

فبعض طلبة العلم مثلاً يفتن بعالم فيريك الله ضعفه في جانب معين، والبخاري رحمة الله تعالى عليه لما ذكر أحد علماء الحديث قال: ما استصغرت نفسي إلا بين يديه، وهذا الذي استصغر نفسه البخاري بين يديه يقيناً أنه استصغر نفسه مع غيره، فالله لا يجعل لأحد كمالاً مطلقاً.

فالعامة يقولون: إن لكل شيء سبع، أي: آفة غالبة، ويقولون: إن سبع الجبال الليل؛ لأن الجبل على عظمته وارتفاعه لا يرى في الليل، فكأنه غير موجود، فيجعلون الليل آفة أو سبعاً على الجبال في كلامهم العادي.

يقول رب العالمين: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ))، بدهياً أن يسأل القرشيون نبينهم عن هذه الجبال العظيمة، قال تعالى: ((فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا))، وهذا إخبار بالنهاية لا إخبار بالبداية؛ لأن الجبال قد ذكرت في القرآن على مراحل عديدة، يقول الله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:٣]، وقال: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:٦]، وقال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:٨٨]، فذكر لها أحوالاً وأطواراً، لكن هنا حتى ينتهي الأمر فذلك الشيء الشامخ لا يذهب إلا بالنسف ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا)) أي: الجبال ((قَاعًا صَفْصَفًا) والقاع: بقعة من الوادي المعروفة {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} [طه:١٠٧] أي: لا ترى في هذه البقعة ميلاً، ((وَلا أَمْتًا) الأمت على الصحيح: النتوء الشيء الظاهر الذي ينتأ في الجسد.

فهذه الجبال من شدة أنها نسفت حتى حجارة منها ملساء اجتمعت بعضها على بعض فتكون شيئاً ناتئاً في الأرض لا يوجد ولا يبقى شيء.