قال تعالى:{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:٢٨ - ٣٠]، فوصلوا إلى مرحلة الصدق، فلما تبين لهم أن الكذب لا يُجدي لجئوا إلى الصدق، حيث يقول تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ}[الأنعام:٣٠] أي: الله جل وعلا {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:٣٠].
وهنا نحرر أن لقاء الله جل وعلا حق لا مرية فيه، والله سائل كل نفس عما صنعت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) وذكرها، وأهل الإشراك يقفون بين يدي ربهم، فيقرر الله جل وعلا ما كانوا يصنعونه في الدنيا، كما جاء في الآية {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}[الأنعام:٣٠] ولا يكون الجواب لهم رحمة، بل يقول الله تعالى:{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:٣٠]، فيحرر من هذا معنى عظيم، وهو أن التوحيد أعظم المنجيات، وأن من مات على التوحيد محال خلوده في النار، ومن مات على الشرك حال دخوله الجنة، فلا ينبغي للمؤمن أن يُقدم على توحيد الله شيئاً كائناً ما كان؛ لأن أي عمل سيُحبط إن لم يكن مصحوباً بتوحيد الله جل وعلا، كما أن كل عمل لا ينفع إذا كان مقروناً بالشرك بالله، قال الله في حق أوليائه الصالحين من عباده المتقين ورسله:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:٨٨] لكن كلمة التوحيد ليست متناً يُحفظ فقط، ولا شيئاً تتطاول به على الناس وترقى منبراً فتقوله، بل يجب أن يقر في قلبك أن الله جل وعلا عظيم لا رب غيره ولا إله سواه، وأنك لا يجوز لك أن تضع جبهتك لأحد غيره جل وعلا، وحين تضع جبهتك له تذكر أنك تضعها بفضل منه ورحمة، وأن الذي هداك لأن تسجد له هو الذي ترجوه أن يقبل منك هذا السجود، وكلما رأيت شيئاً في الدنيا عظيماً فتذكر أن عظمة الله أعظم، وكلما رأيت في الكون شيئاً ناقصاً دلك ذلك على كمال ربك تبارك وتعالى، واستصحاب هذا الأمر في حياة الإنسان غدواً ورواحاً، ذهاباً ومجيئاً يزيد من رقة قلبه، ويزيده علماً بربه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(أحق الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه) والإنسان لا يدري أي ساعة يكون فيها مقبولاً عند الله، فكلما انقلب على جنبه أو ركب دابته، أو مكث منفرداً بنفسه يُردد هذه الكلمة، ويحاول أن تكون ممزوجة بالإخلاص يواطئ فيها قلبه لسانه، حتى يكون ذلك مقبولاً عند الله، قال صلى الله عليه وسلم:(من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة) قال أبو ذر: وإن زنا وإن سرق؟! فقال:(وإن زنا وإن سرق)؛ لأن (لا إله إلا الله) كلمة جليلة عظيمة كريمة على الله، وكل الذي ذكره الله جل وعلا من آيات سلفت، وما سيأتي من آيات في هذا المقام في سورة الأنعام خاصة، كل ذلك ورد في قضية أن هؤلاء القوم ضُربت عليهم الذلة، وسينالون ما سينالون في الآخرة بسبب أنهم أشركوا مع الله آلهة أخرى، وقد قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}[الأنعام:١٩] فأمر الله نبيه أن يقول: {قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:١٩]، فيجب استصحاب الكفر بالطاغوت، وألا يقع في القلب -ولو مثقال ذرة- أن الله جل وعلا معه شريك أو له ند، وينجم عن هذا ويلزم منه استصحاب أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وهذه نفحات إيمانية يضعها الله جل وعلا في قلب من يشاء من عباده، ثم إن مضى إنسان في مسيره وفي حياته وفي مقابلته للناس غدواً ورواحاً فسيأتيه من الأحداث والوقائع والصنائع ما يُختبر فيه توحيده لربه تبارك وتعالى، فسيشفى من مرض، فهل سيشكر الله أم يظن أن هذا عائد لنجابة الطبيب؟ وسيُحرم من خير، فهل سيلجأ إلى ربه لعلمه أنه لا يقدر على إعطائه إلا الله؟ وسيرى نعمة من الله على غيره، فهل سيحسدهم ظناً أن هؤلاء الناس نالوها بقوتهم فينازعهم فيها، أم يعلم أن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه يُعطي ويمنع فيغبط الناس ويلجأ إلى ربه يسأله من خيري الدنيا والآخرة؟ وسيرى ملوكاً يتوفون، ويرى دولاً تتهدم، ويرى قبور في أسفاره فيتدبر، ويعلم أن هناك رباً عظيماً جليلاً لا يحول ولا يزول، وفي ذات الوقت أنعام سيقع بعين بصيرته على أقوام أوتوا حظاً كبيراً من متاع الدنيا، فيقر في قلبه أن الله جل وعلا أخبر أن ذلك إلى فناء، وأن منتهاه إلى زوال، وأنه مهما عظم وجل في العينين فإن ما عند الله جل وعلا خير وأعظم، قال تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[الكهف:٤٥] فالله جل وعلا يخاطب الناس في واقعهم، ثم يقول:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ}[الكهف:٤٦] ولم يقل الله: ذلك كذب وافتراء، بل قال:{زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:٤٦]، وهذا حق لا يماري فيه أحد، ولكن الله لما أوجد عباده لعبادته قال:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:٤٦].
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.