للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض إن عذاب ربكم كان محذوراً)

ثم قال جل وعلا: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:٥٥]، وتفضيل الله جل وعلا النبيين بعضهم على بعض ثابت بالكتاب والسنة، لكن دائماً الإشكال يكون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على الأنبياء)، وما ورد من آثار في النهي عن التفاضل حمله بعض العلماء على أن هذا قبل علمه صلى الله عليه وسلم، لكن للعلماء فيه أقوال تصل إلى أربعة أظهرها: أن التفضيل في أصل النبوة غير موجود، فكلهم أنبياء، لكن ما أعطاهم الله من خصائص بعد ذلك وكرامات هذا الذي يوجد فيه التفضيل، ولهذا قال الله جل وعلا: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:٢٥٣]، {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:٢٥٣] والمشهور الذي عليه أكثر الناس: أن أفضل الأنبياء الخمسة من أولي العزم من الرسل: محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم، ثم اختلف في الثالث فقيل: نوح، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، ويدور الأمر بين هؤلاء الثلاثة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ثم قال الله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:٥٥] والإشكال: هو لماذا أقحم داود هنا؟ والأجوبة في هذا تختلف كلاً بحسب رؤيته، لكن خذ سورة مكية أخرى وهي سورة الأنبياء، فقد قال الله فيها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:١٠٥]، والزبور أنزل على داود، فكأن الله يقول للمؤمنين تأييداً وللمشركين توبيخاً: إنني عندما ذكرت داود هنا لأنبأكم أنني أنزلت على داود أن من القدر المحكم الذي سيبرم: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، والعباد الصالحون الآن هم: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فاضطهادكم -أيها الكفار- لهؤلاء المؤمنين لن يغير من الواقع شيئاً فهم الذين سيرثون الأرض.

هذا ما قاله البعض في سبب ذكر داود، وقال آخرون: إن الأمر غير ذلك، وجوابه عندهم: أن من علم سيرة داود علم أن أصله كان شاباً يرعى الغنم ثم ما لبث أن انخرط في جيش طالوت ثم آل الملك إليه ثم أعطاه النبوة والكتاب، كما قال الله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:٢٥١]، فتفضلنا على داود الذي كان مجرد راع غنم، ثم جند في جيش حتى آل به الأمر إلى أن أصبح نبياً والداً لنبي، وملكاً يتبعه ملك، هذا المقصود منه، أصبح المقصود منه: أن الله تعالى تفضل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تستكبر أن يكون يتيم أبي طالب نبياً رسولاً، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١] هذان الوجهان اللذان ذكرهما أكثر العلماء حول مناسبة ذكر داود دون غيره من الأنبياء في قوله جل وعلا: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:٥٥].

ثم قال الله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:٥٦ - ٥٧] هناك كشف، وهناك تحويل، والكشف: إزالة الضر بالكلية، أما التحويل: نقله من أحد إلى أحد، أو النقل من حالة إلى حالة، من غنى إلى فقر، من صحة إلى مرض، أو من مرض إلى صحة، الله جل وعلا يقول لهؤلاء القرشيين ناعياً على بعضهم ممن يعبد الصالحين أن الطريق الذي رسمتموه لأنفسكم طريق ضلال؛ لأن الذين أنتم تتوسلون إليهم هم في أنفسهم يطلبون الوسيلة من الله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:٥٧]، وهذه الآية أحياناً بعض العلماء يطنب في تفسيرها، حتى قال بعضهم كما ذكره الطاهر بن عاشور في التحرير يقول: لم أجد فيها ما يشبع النهم، ويشفي الغليل.

يعني: من أقوال المفسرين، لكن الحق: أنها ظاهرة المعنى، وأن الله جل وعلا يتعجب من صنيعهم هذا، وهذا نظير قول الله جل وعلا قبل قليل: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:٤٢] هذه قريبة بعضها من بعض.