[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)]
الحمد لله وحده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٧١]، وذكرنا أقوال العلماء فيها.
قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٧٢ - ١٧٣].
مرت معنا آية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ} [البقرة:١٦٨]، وهذا النداء عام، والآن خص الله جل وعلا أهل الإيمان بالنداء فذكر المباح، وذكر المحرم، وبدأ بالحلال المباح؛ لأنه أكثر، وأخر المحرم؛ لأنه محصور، واستخدم في حصره إنما وهي تدل على الحصر.
قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢]، ما دمنا معترفين أننا عبيد لله، وأن الله أفاء علينا الخير فإقبالنا على الخير نوع من الاعتراف بعبوديتنا لربنا وعدم إعراضنا عنه.
ومن هنا تفقه أن الإنسان كلما كان يظهر فقره لله ومسكنته كان قريباً من الله، جاء في الحديث الصحيح: (أن أيوب عليه الصلاة والسلام بعث الله إليه رجل جراد من ذهب)، رجل جراد تعبير مثل سرب طيور، أي: مجموعة من جراد من ذهب، فأخذ وهو نبي الله المذكور في القرآن المقول عنه: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٣٠]، (فأخذ يحثو الجراد في ثوبه، فأوحى إليه ربه: يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى؟! قال: يا رب! لا غني لي عن فضلك).
فالله جل وعلا هنا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:١٧٢]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:٤]، يبنى على هذا قواعد فنقول: كل ما أباحه الله وأحله فهو طيب، وكلما حرم الله فهو خبيث، لكن ليس كل خبيث محرماً، قال عليه الصلاة والسلام: (وكسب الحجام خبيث)، مع أنه أعطى الحجام، وسمى البصل والثوم شجرتين خبيثتين مع أن الناس يأكلون منها، وقال جل وعلا: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:٢٦٧]، مع أننا نأكله، فالعبارات تختلف، ولذلك يتحرر الإنسان علمياً قبل أن يتفوه بكلمة.
قال الله: {إِنَّمَا} [البقرة:١٧٣] أداة حصر، {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:١٧٣]، الميتة ما مات حتف أنفه أو ذبح بطريقة غير شرعية، ويسمى: يسمى ميتة، وهو أعظم المحرمات وأولها.
والثاني: الدم، وهذا الإطلاق قيدته آية: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:١٤٥]، وخصصه الحديث كما خصص الميتة: (أحلت لنا ميتتان السمك والجراد، وأحل لنا دمان الكبد والطحال).
فالكبد دم والطحال دم لكنه غير مسفوح، والسمك والجراد خصص من الآية بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
الثالث: لحم الخنزير والمراد به: الخنزير جملة عند جمهور العلماء.
واختلفوا لماذا ذكر الله اللحم، وقد ذهب مالك رحمه الله إلى أن عين الخنزير ليس نجساً أو قال به بعض العلماء، حتى يصبح لقوله: (أو لحم الخنزير) له معنى، وقال جمهور العلماء: بالإطلاق.
الرابع: ((وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) الإهلال رفع الصوت، يقال للوليد إذا استهل صارخاً: أهل، ويقال للحاج: مهل؛ لأنه يرفع صوته بالتلبية.
كانت لقريش أصنام يأتون بذبائحهم إليها فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، ينحرونها لآلهتهم، فأي شيء أهل به لغير الله لا يقبل حتى لو كانت من صنيع أهل الكتاب، فالأصل في طعام أهل الكتاب أنه حل لنا.
لكن لو كان عندهم عيد يهلون به لغير الله وذبحوا فيه لا يجوز لنا أن نأكل منه لآية البقرة، ونبقي آية المائدة على عمومها.
قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:١٧٣] الباغي في اللغة هو الطالب للشيء إن كان خيراً أو شراً، لكن المقصود هنا: الطالب للشر.
{وَلا عَادٍ} [البقرة:١٧٣] أي: ولا متجاوز للحد، واختلف العلماء في معناها: منهم من حصرها بالبغي وهو الخروج على الأئمة، وجعل العاد قطاع الطريق، والحق أن الباغي والعادي ليست مرتبطتين بقطاع الطريق أو بالخارجين على الأئمة، وإنما الباغي هو من يريدها من غير اضطرار، والعادي من يتجاوز الحد في أكلها.
ثم قال الله بعدها: {فَلا إِثْمَ} [البقرة:١٧٣] أي: إن كان مضطراً، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٧٣].