تفسير قوله تعالى:(وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم)
قال الله تعالى:{وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:٤١].
(آمِنُوا) أمر، (بما أنزلت) هو القرآن، (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) التوراة.
(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) من المعلوم أن القرآن أول ما نزل نزل بمكة، فأول من كفر بالقرآن مشركو قريش، فلا يقولن قائل: إن في القرآن تعارض، وفهم السياق يساعد إلى الوصول إلى الحقائق، الحقيقة تقول: إن هذه الآيات المخاطب بها في المقام الأول: علماء اليهود وأحبارهم مثل كعب بن الأشرف وأمثاله، وهؤلاء كانوا يسوسون الناس، وفي كل ملة الناس تبع لعلمائهم ولهذا قيل: معشر القراء يا ملح البلد من يصلح الناس إذا الملح فسد بالملح نصلح ما نخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغير فكعب الأشرف وأمثاله من أحبار يهود آنذاك كانوا رءوساً، ولم يكن هناك يهود في مكة، فلما أنزل الله القرآن على نبيه في المدينة كما أنزله عليه في مكة خاطبهم الله جل وعلا؛ لأن أصل الصدارة لهم:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[البقرة:٤٠]، فيخاطب الله العلماء من أهل الكتاب:(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: فيتبعكم الناس على ذلك الكفر.
(وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) بعض المذاهب المعاصرة تقوم على أن يدفع الأتباع للرؤساء فيجد الرؤساء المتصدرون الآخذون بزمام العلم كسباً من سفلة الناس وعامتهم ودهمائهم، فإذا بينوا للناس الحقائق التي أنزلها الله -لا الحقائق التي أضاعوا الناس بها- يحصل من هذا أن العامة يتركونهم، فإذا تركوهم خسروا ذلك المتاع الذي يجنونه من ورائهم، فالله جل وعلا يقول: لا يمنعنكم -أيها الأحبار- ذلك الكسب الدنيوي الذي تحصلون عليه من الأتباع أن تتقوا الله جل وعلا في هذا النبي فتخبروا أتباعكم بأن هذا النبي حق من عند الله.
وقول الله جل وعلا:(وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) فكل ثمن مقابل القرآن فهو قليل، ولو أن أحداً أعطي الدنيا على أن يتكسب بالقرآن لأجل مسألة دنيوية محضة فهي تعد قليلاً، بل لا يوجد قياس أبداً بين أي كسب دنيوي بالقرآن وبين القرآن، لكن هذا لا يعني عدم أخذ الأجرة على تعلم القرآن، فهذه مسألة أخرى اختلف العلماء فيها، وأكثر العلماء اليوم على الجواز محتجين بحديث:(إن أعظم ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).
قال الله جلا وعلا:{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:٤١] هنا مسألة نحوية تتكرر أحياناً (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) كافر: مجرورة لأنها صفة لموصوف محذوف، والتقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به، وإنما أجبرنا على هذا التقدير أن العرب في اسم التفضيل لا بد أن يوافق ما بعده ما قبله.
(وَلا تَكُونُوا) قبل اسم التفضيل الأول واو جماعة فلا بد أن يكون ما بعدها مجموع، وكلمة كافر مفرد فلا تناسب واو الجماعة في:(وَلا تَكُونُوا) فيصبح التقدير: ولا تكونوا أول فريق أول قوم (كَافِرٍ بِهِ).