والرب تبارك وتعالى في هذه الآية يعلم عباده أن الأشياء على درجات، ولا يمكن أن يعطى أحد كلما شيء بالكلية، والعرب تقول: من الأشياء ما ليس يوهب، فمهما بلغ قرب من حولنا من العبيد والجواري، تبقى مع ذلك حالات خاصة بنا لا يمكن أن نفتحها للآخرين على علو مكانتهم وقربهم منا، وحاجتنا إليهم، وحاجتهم إلينا، فهناك أمور هي خطوط حمراء، والقرآن ما أنزل ليوضع في السيارات تبركاً كما يفعله البعض، وليس المقصود بيان حكم هذا، ولكن المقصود هو بيان أن نفقه أن القرآن أنزل لمعان عظيمة، ومقاصد جليلة، منها: أن نعيش حياتنا وفق آيات القرآن، والتعبير بالآيات هنا أجمل من التعبير بالنظم؛ لأن النظم تنصرف إلى القوانين الوضعية أكثر من انصرافها إلى غيرها.
فالرب جل وعلا هنا ينادي عباده نداء كرامة لبيان أنه لابد من الاستئذان، ولكنه قال:{ثَلاثَ مَرَّاتٍ}[النور:٥٨] وهذه الثلاث المرات هي خصوصية من الوقت العام، فهؤلاء -كما سيأتي في آخر الآية- طوافون، بمعنى أنهم يدخلون ويلجون البيوت، والدين جاء لرفع المشقة، فالأحكام -وإن عممت أحياناً- تأتي معها استثناءات، فطالوت يقول لقومه:{إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}[البقرة:٢٤٩]، ويعقوب يقول لبنيه:{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}[يوسف:٦٦]، وسليمان يقول في قضية الهدهد:{أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[النمل:٢١]، فلابد من ترك خط رجعة للآخرين.
والأصل أن الناس جميعاً يلزمهم الاستئذان، ولكن الجواري والعبيد الخدم والأطفال مستثنون من هذا الطلب العام، فهؤلاء المقربون تأتي لنا أحوال، تكون فيها في حالة خاصة جداً، وفي هذه الحالة الخاصة يكون لهذه الطائفة نوع من التوقف عن الولوج، والعاقل في تعامله مع الآخرين يضع خطوطاً، فمن حولك كل منهم له خط يقف عليه، والله يقول عن ملائكته:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[الصافات:١٦٤].
فهذه خطوط عظيمة يضعها القرآن بين أيدينا في التعامل مع غيرنا.
وليس من الصحيح أن يلتفت فقط إلى القضايا النحوية والبلاغية، وإن كانت مطلوبة، فبذلك نظلم أنفسنا بفهم كلام الله إن جعلناه محصوراً في هذه القضايا، بل القرآن أشمل وأعظم وأجل من ذلك، فهو تشريع، ولهذا قال الله بعدها:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النور:٥٨].