[تفسير قوله تعالى:(وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده)]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا في الآية الخمسين من سورة البقرة: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}[البقرة:٥٠]، وذكرنا أن هذه الآيات جاءت تبعاً لنداء الله جل وعلا لبني إسرائيل في قوله سبحانه:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}[البقرة:٤٠]، كما ذكر الله جل وعلا بعضاً من أخبار بني إسرائيل ممتناً على الأبناء بما فضل الله جل وعلا به الآباء، فأقام الحجة عليهم وأظهر لهم المحجة.
ثم قال الله جل وعلا:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:٥١] قد مر معنا ذكر الكثير من هذه الأخبار في شرحنا لسورة طه فلا معنى للتكرار، لكننا سنعلق قدر الإمكان مما يستوجبه المقام فنقول:(وَإِذْ وَاعَدْنَا) هذه فيها مفاعلة فكان الأمر من الله والقبول من موسى؛ ولهذا قال الله:(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى)، فإن كلمة (واعد) تتطلب اثنان؛ فلهذا قال الله:(وَإِذْ وَاعَدْنَا) فكان الأمر من الله والقبول من موسى.
وبعض العلماء يقول: كان الوعد من الله والوفاء من موسى، واعد الله جل وعلا موسى عند جبل الطور في المدة التي كان فيها موسى يخاطبه ربه عند الميقات الزماني والمكاني، فاتخذ بنو إسرائيل العجل.
واتخذ: فعل يتعدى إلى مفعولين، واللغة مفتاح لفهم القرآن، فأحياناً تجد أمراً تستشكله لغوياً، ووجود الإشكال هو أول طرائق العلم، لأن العلم هو حل الإشكالات الموجودة، فلو قلت مثلاً: اتخذ يزيد التدريس مهنةً، فلو قلت: اتخذ يزيد التدريس، احتاجت الجملة إلى اكتمال إما أن يفهم من السياق، أو أن تقوله لفظاً.
والعجل هو صغار البقر، لو جاء إنسان واتخذ العجل طعاماً لضيفه فلا يمكن أن يحرج عليه فيه بل هذا هدي الأنبياء، فإن إبراهيم ذبح العجل إكراماً لضيفه، والله جل وعلا هنا يقول:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:٥١] اتخذتم: فعل وفاعل، والعجل: مفعول به أول، لكن أين المفعول به الثاني؟ لم يذكره الله، لكن معلوم لكل أحد من سياق الآيات في سورة البقرة وطه وغيرهما أنهم اتخذوا العجل إلهاً يعبد من دون الله.
ومن طرائق القرآن في التشنيع عدم ذكر الشيء لشناعته، إذ لا يتصور عقلاً حتى يقع لفظاً، فالله لم يقل في القرآن: واتخذتم العجل إلهاً، إذ لا يتصور أن أحداً يعبد العجل بعد أن عرف الله؛ ولهذا لم يأت المفعول الثاني لاتخذ هنا ظاهراً، وإنما أضمر لبيان الشناعة في اتخاذه.
قال الله جل وعلا:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:٥١] في فترة الغياب اتخذ بنو إسرائيل العجل إلهاً.