وهذه السورة صدرها الحق جل وعلا بقوله:{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:١]، وهو افتتاح غير مألوف في القرآن، فلا يعلم أن سورة من القرآن افتتحت بمثل هذا الافتتاح.
والسورة في اللغة: المنزلة الشريفة العالية، وحق لسور القرآن أن يقال لها ذلك؛ فقد شرفت وعظمت تنزيلاً ولفظاً ومعنى، والعرب تطلق ذلك على ما عظم وشرف، قال قائلهم: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب والقرآن كله منزل من عند الله، ولكن الله قال هنا:{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا}[النور:١]، وقد أجاب العلماء عن هذا بقولهم: إن هذا للفت الانتباه وإرشاد العناية إلى ما تتضمنه هذه السورة المباركة من عظيم الأحكام الشرعية.
ثم قال الله جل وعلا:{وَفَرَضْنَاهَا}[النور:١] وقد قرئ هذا اللفظ بالتخفيف (فرضناها)، وقرئ بتشديد الراء (فرَّضاها).
والقراءة الأخرى المقصود منها أن أحكامها نزلت منجمة، أي أن السورة لم تنزل كاملة، وأياً كان المعنى فإن الأفضل أن يقال جواباً عن هذا كله: إن هذه السورة عنيت بالأحكام وعنيت بتعريف العباد بربهم، فما يتعلق بالأحكام عبر الله جل وعلا عنه بقوله:{وَفَرَضْنَاهَا}[النور:١]، وما يتعلق بالعقائد والتعريف بالرب عبر الله جل وعلا عنه بقوله:{وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:١].
والقرينة التي تدل على صحة هذا المنحى في التفسير قول الله جل وعلا:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:١]؛ فإن الدعوة إلى تذكر الشيء يلزم منها أن يكون الشيء مستقراً من قبل، ومعلوم أن الأحكام لم يكن للمسلمين علم بها من قبل، فلا ينطبق عليها قول الله:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:١] وإنما ينطبق على الآيات التي عنيت بالتعريف بالرب والإرشاد إليه، ومنها في هذه السورة قول الله جل وعلا:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}[النور:٤٣]، وقول الله جل وعلا:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}[النور:٤٥]، والآية التي من أجلها سميت السورة بسورة النور، وهي قول الله جل وعلا:{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[النور:٣٥].
فهذه الثلاث الآيات لا تحمل أحكاماً، فلا ينطبق عليها قول الله:{َفَرَضْنَاهَا}[النور:١]، وإنما ينطبق عليها قول الله:{وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:١] وقلنا: إن قرينة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:١] تؤيد هذا المنحى، فقد جاءت عقب الآيات البينات ولم تأت عقب قوله تعالى:(فرضناها).
وهذه الآية التي صدر الله جل وعلا بها هذه السورة هي توطئة وتمهيد، فبدأ الله بالأحكام فقال:{وَفَرَضْنَاهَا}[النور:١]، وأجل الحديث عن الآيات، ولهذا جاء ما بعدها مناسباً للتمهيد، فبدأ الله بالأحكام قبل أن يبدأ بأمور العقائد في هذه السورة، لا أن العقائد ليست أهم من الأحكام، بل الحديث هنا عن سورة مدنية نزلت بعد أن استقرت العقائد في أنفس المسلمين، ولا غنى للخلق عنها.