[فوائد مستنبطة من سورة طه]
هذا جملة ما يمكن أن يقال إجمالاً عن هذه السورة المباركة، وجملة الفوائد فيها: أن يعلم أن القرآن معجز في ذاته، وهذا الإعجاز ذكره الله جل وعلا هنا تشويقاً في ثلاث مراحل، فذكره في أول السورة: {طه} * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:١ - ٢]، وذكره قبل النهايات: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه:١١٣]، وذكره هنا {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:١٣٣]، ففي هذه الثلاثة المواضع ذكر الله جل وعلا القرآن ليبين رفيع قدره وعظيم شرفه، وقد قال في شرف القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:٤٤] أي: وشرف لك ولقومك وسوف تسألون عنه هذه واحدة.
الثانية: ذكر الله جل وعلا في هذه السورة المباركة إجمالاً خبر كليمه موسى ونبيه آدم عليهم الصلاة والسلام، ولم يذكر الله في هذه السورة قصة أحد من الأنبياء غير موسى وآدم، والعجيب أنه ليس في القرآن سورة اسمها سورة موسى، رغم أن موسى عليه السلام ذكر في أكثر من موضع.
وهذا -إن صح التعبير- يدخل فيما قلناه سابقاً: أن الله جل وعلا لا يعطي أحداً كل شيء، إنما ذكر يونس؛ لأنه عاتبه عتاباً شديداً فسميت سورة باسم يونس، وذكر موسى كثيراً في القرآن لكن لم تسم سورة باسمه عليه السلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم سميت سورة باسمه: سورة محمد، وتسمى أحياناً: سورة القتال، وتسمية سور القرآن تسمية توقيفية مبنية على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مبنية على أمر الله من حيث الجملة، لكن عموماً ثمة ملحوظات يقع عليها المرء تبين له كيف أن الله جل وعلا يوازن بين عباده، والله يقول: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:٢٧].
والمقصود: أنه حتى الناس لو تأملتهم فستجد من أعطي عافية ومالاً يحرم من أشياء أخر قد لا تظهر لك، ومن أعطي قلة مال قد يعطى أولاداً، وقد يوجد أحد عنده أموال ويتمنى الولد، وقد يوجد مبتلى لكنه معطى أموراً أخر غير التي فيها بلاؤه، وقل أن ترى عبداً إلا وفيه أثر النعمة وأثر الابتلاء، ولا نقول: نقمة، بل يبتليه الله جل وعلا به، فإن لم يحسن التعامل مع ذلك الابتلاء انقلب إلى نقمة، وإن أحسن التعامل انقلب إلى عافية ورفع درجات.
لكن من العبد الخالص الذي يستحق أن يفوز بجائزة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:٢]؟ هو من كان قلبه -بصرف النظر عن ماله وولده ومسكنه وجامعه وعلمه- من كان قلبه معلقاً بالله، لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً، يتفاوت الناس في المال وفي الولد وفي العلم وفي الطول والقصر، لكن لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً.
إننا نريد منا جميعاً أن نعلم أن الغاية من خلقنا أن تعترف قلوبنا بخالقها وتذعن له وتعبده وحده: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
فلا يوجد أحد ساد وعنده ما ليس عندك، فعنده قلب وعندك قلب، وهو مقام التحاكم وموئل العبادة، وهو موضع محبة الله وبغضه عند أهل الكفر، وطاعته ومعصيته عند العصاة، فكل الأمور معلقة بمدى اتصال هذا القلب بالخالق، وما الجوارح إلا شواهد ودلائل وقرائن على مدى اتصال القلب بالخالق سبحانه.
علمنا الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا الله وإياكم بما علمنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، وأرجو أن يكون فيما قلناه في سورة طه نفعاً لمن سمعنا وشاهدنا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.