تفسير قوله تعالى:(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض إلى قوله: فإنه كان للأوابين غفوراً)
قال تعالى:{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء:٢١] والجنة مائة درجة، وهناك تفاضل عظيم ما بين أهلها، كما أن النار دركات، إلا أن الله برحمته ينزع الحزن أبداً عن أهل الجنة، وإن كان صاحبها أقل أهل الجنة ثواباً ومنزلة، أما النار فإن أدناهم منزلة عياذاً بالله يظن أنه لا أحد أشد عذاباً منه، وهذا وحده غاية النكال.
قال:{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء:٢١] ثم قال تجديداً لقضية إيمانية تتردد في القرآن كثيراً وهي: أن توحيد الله هو المقصود الأعظم، قال:{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}[الإسراء:٢٢] ونسب الفعل (تقعد) لأنه جاء بعد فاء السببية التي سبقها فعل مسبوق بنهي؛ ولذلك جزم بالسكون، قال:{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}[الإسراء:٢٢]، ثم جاءت في الآيات سلسلة من الأخلاق، وسورة الإسراء سورة مكية لم ينبه الله فيها إلا على أمور مقررة فقهياً في كل الملل التي سلفت، قال الله:{وَقَضَى رَبُّكَ}[الإسراء:٢٣]، وهنا (قضى) بمعنى: أمر، وقد مر معنا: أن قضى تأتي بمعنى: خلق، كقوله سبحانه:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ}[فصلت:١٢]، وتأتي بمعنى: حكم، كقوله جل وعلا:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[النمل:٧٨].
قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ}[الإسراء:٢٣] أي: أمر، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:٢٣] وهذا تحقيق للتوحيد الذي تحدثنا عنه مراراً، وهو الغاية من خلق الثقلين، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة:٥].
ثم قال:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء:٢٣] قال العلماء - وهذا ظاهر لكل أحد -: إن الله قرن بر الوالدين بوحدانيته؛ ليبين عظيم المنزلة للوالدين، وهذا إجمال {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء:٢٣]، ثم بين:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}[الإسراء:٢٣] فنهى عن الأدنى تنبيهاً للأعلى، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:٢٣] والقول الكريم: هو ما يستطيبه السمع، وتستريح له النفس، وترغب بسماعه الأذن، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الإسراء:٢٤] هذا عند البلاغيين يسمى: استعارة؛ ذلك أن الطائر إذا أراد أن يعلو خفض بجناحيه، فإذا أراد أن يهبط خفضهما، لكن الله قال -وهذا من دقائق التعبير والفوارق القرآنية- قال:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:٢١٥] لكنه هنا قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الإسراء:٢٤] فكلمة الذل زائدة في حق الوالدين عن عموم الناس؛ لأن حق الوالدين ليس كحق بقية الناس، فأنت مطالب بأن تخفض جناحك للمؤمنين، لكن يكون خفضك لجناحك في تعاملك مع والديك أشد وأعظم؛ قال الله جل وعلا:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:٢٤] وهذا تنبيه لك، ليس المقصود منه: أنه لو فرضنا أن أحدهما مات ولم ينل مشقة تربيتك أنك لا تدعو له هذا محال، لكن هذا قيد أغلبي؛ لأن الأصل أن الوالدين هما اللذان يقومان بتربية الأبناء، {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:٢٤].
قال:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:٢٥] من أخطاء الأئمة أنهم يقرءونها: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ}[الإسراء:٢٥] ثم يقول: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:٢٥] فالله أعلم بما في نفوسنا كنا صالحين أم لم نكن، لكن ما معنى الآية:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ}[الإسراء:٢٥] شرطية، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:٢٥] جواب الشرط، وأحياناً هذا يقع لو راجعت كثيراً من أوراقك القديمة أو حتى في أيامك هذه، أحياناً تريد أن تبر والديك أو أحدهما فتقع في خلاف الذي تريد، فتقع منك كلمة لا يرغبانها، وأنت لا تقصد عقوقهما إنما تقصد برهما، أو أن تقدم لهما شيئاً ترى أنهما يحبانه، فإذا هما يكرهانه، فالموقف العام لا يساعدك على أن تظهر كل ما في قلبك، أو على أن تقول الأمر بجلاء، فأنت تريد أن تبره، وهو يرى أنك عاق له، مثاله: قد يكون أحد والديك يشعر بوهم كبير أنه مريض، فيلح عليك أنه مريض، ويريد أن تذهب به إلى الطبيب، وأنت تمتنع لا عقوقاً له، وإنما لأنك لا تريد أن تعينه على نفسه حتى لا تزيد وهمه؛ لأنك لو أخذته واستجبت لندائه ولئن ذهبت به إلى الشيخ فلان ليقرأ عليه، وغداً ذهبت به إلى الطبيب ليكشف عليه زدت من قناعة الوالد أو الوالدة بأنه مريض، وأنت تعلم أن الوالد أو الوالدة إنما هي قضايا نفسية لا أكثر ولا أقل، فكونك تمتنع عن الذهاب به إلى ما يريد، إنما تعينه على نفسه حتى ينتصر على أوهامه، وإن كان الأب أو الوالد ينظر إليك على أنك عاق، وربما أسمعك كلاماً لا يرضيك، وربما قال لجيرانه أو لأصدقائه أو لبعض إخوانه: إنني قلت لابني فلان مرة ومرتين لكنه لا خير فيه ولا يريد أن يذهب بي إلى الطبيب؛ لأنه يجهل مصلحته وأنت لم تقصد إلا الخير، فهذا خفي على الوالد وخفي على الوالدة، لكنه لا يخفى على رب العالمين، هذا معنى قول الله:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}[الإسراء:٢٥] بعد ذكره لبر الوالدين، {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:٢٥] تقصد خيراً، تريد صلاحاً فبر بوالديك، فإنه جل وعلا كان للأوابين غفوراً.