[حكم من نفر من مزدلفة قبل الغروب]
وتصور المسألة على النحو الثاني: الوقوف بعرفة الجمهور يرون أنه يبدأ بعد زوال الشمس، لكن اختلفوا فيمن نفر من عرفة إلى مزدلفة قبل الغروب، ومسألة النفرة من عرفة قبل الزوال فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا حج له، وهذا أضعف الأقوال، وهو قول مالك رحمه الله تعالى: أن من نفر من عرفة قبل مغيب الشمس فلا حج له.
قال ابن عبد البر: ولا أعلم أحداً وافق مالكاً في هذا.
القول الثاني: وهو قول الجمهور: إنه يجب الوقوف بعرفة إلى مغيب الشمس، وحجتهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بين النهار والليل؛ لأنه لو جلس لحظة بعد الغروب فقد جمع بين النهار والليل، فينفر بعد مغيب الشمس تماماً، فإن نفر قبل الغروب -عند الجمهور- فحجه صحيح وعليه دم؛ لأنهم يرون أنه ترك واجباً، وأما لو ترك ركناً بطل الحج، لكنهم يرون أنه ترك واجباً، والواجب عندهم ليس هو الوقوف بعرفة، فالوقوف بعرفة ركن باتفاق، لكن الجمع بين النهار والليل هو الركن عندهم، أو أن لا بد أن يقف فيها ليلاً؛ لأنهم يقولون: لا يحتاج إلى دم لو مكث في الليل فقط.
ثالث الأقوال: أن من نفر قبل الغروب فحجه صحيح ولا شيء عليه، وإنما خالف الأولى، وهذا القول مال إليه الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في (أضواء البيان)؛ لحديث عروة بن مضرس الطائي الذي رواه أبو داود بسند صحيح.
فـ عروة بن مضرس صحابي جاء من جبلي طي -في حايل- فقابله النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة، فقال: يا رسول الله! إني أكللت راحلتي وأتعبت نفسي فما تركت جبلاً إلا ارتقيت عليه، فهل لي من حج؟ وأنت عندما يأتيك إنسان أوراقه مبعثرة لمها وأعطه المفيد، ولا تخاطبه في كل صفحة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (من شهد معنا صلاتنا هذه -أي: الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف في عرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه)، فقالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (ساعة من ليل أو من نهار) فيه دلالة على أنه لا يلزم الجمع بين الليل والنهار.
وأجاب الجمهور عن هذا: أن هذا مبين للإجزاء، لكن لا يلزم منه أنه يجب عليه أن يقف، وقالوا: لا نقول إن حجه باطل لحديث عروة، لكن نلزمه بالدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف إلى أن غابت الشمس، ثم قال في جملة أحاديث: (خذوا عني مناسككم).
قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٨] فالنبي عليه الصلاة والسلام أتى مزدلفة ولم يأت المشعر، وقال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)، ثم صلى المغرب والعشاء جمع تأخير، ثم اضطجع، ثم صلى الفجر في أول وقته، أي: بعد دخول الوقت لكن في الأول، ثم أتى المشعر الحرام، وهو الجبل الذي عنده الآن مسجد، وأظنه الآن في طريق ستة وأنت داخل إن كنت لم أنسَ، وفي المشعر الحرام مسجد لا يوجد مسجد وعلم غيره، وهذا المسجد هو المشعر الحرام الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان وقوفه بعد صلاة الفجر، ووقف يدعو كثيراً ويذكر الله مستقبلاً القبلة؛ عملاً بالآية، ((فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ))، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن ذكر الله عند المشعر الحرام ركن من أركان الحج، وبعضهم يقول: لا أقول بالركنية وإنما أقول بالوجوب، وهذه خلافات فقهية ليس لها علاقة بالآية، لكن هذا معنى قول الله تعالى: ((فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)).
ثم قال ربنا: {كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:١٩٨] (كما هداكم)، أي: لهدايته لكم.