للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق إنه كان منصوراً)

ثم قال الله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:٣١] الآيات مكية تخاطب الظواهر الاجتماعية المعيبة المشينة التي كانت في المجتمع المكي، ومن أعظمها: أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر؛ ولهذا جاء في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:٣١] أنتم لا تشتكون فقراً لكنكم تزعمون أن الولد إذا جاء ضيق عليكم، فلهذا قدم الله ذكر الولد بقوله: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:٣١] ثم قال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:٣١] ذنباً وأي ذنب! يكفي أن فيه إساءة الظن برب العالمين جل وعلا، وأن الله عاجز عن رزقه، وهذا وحده عين الكفر، فإذا ظن العبد أن الله عاجز عن أن يرزق أحداً والله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦] ويقول: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:٦٠] فهذا أكفر الكفر.

هنا يقول ربنا: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣١ - ٣٢] أي: أي طريق يدني من هذه الفاحشة المحرمة في جميع الشرائع، ثلاث أمور نهى الله عنها: الشرك، وقتل النفس بغير حق، والزنا، وقد ذكرها الله جميعاً في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:٦٨] فهذا محرم في الشرائع كلها، قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:٣٢] ثم قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:٣٣] والحق: أن يكون القتل قتلاً شرعياً، وقد بين صلى الله عليه وسلم موجبات القتل بقوله: (كفر بعد إيمان، وزنىً بعد إحصان، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:٣٣] ثم قال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:٣٣]، قال هنا: فلا يسرف، ولم يقل: فلا يبذر، والأصل أن يقتل واحد بواحد، وهذا حق، لكن إذا زاد فهذا إسراف، ولم يسمه الله: تبذيراً؛ لأنه قائم في أصله على وجه حق، قال: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:٣٣]، فقد كان بعضهم يرى أن فيه أنفة وأن فلان بن فلان لا يمكن أن يقتل بواحد، ومر معكم في حرب البسوس: لما قتل جساس كليباً، وأخبر مهلهل أخو كليب بأن جساساً قتل أخاه، وقامت حرب البسوس بين بكر وتغلب، وبكر وتغلب كلاهما من ربيعة، وكان فيهم أنفة، الشاهد أن أحدهم من الزعماء آنذاك أظنه الحارث بن عباد أراد أن ينهي المسألة، فبعث ابنه ليقتل بدلاً من كليب، فيستريح مهلهل وتنتهي المسألة -وكان الحارث زعيماً- فبعث ابنه فرفض مهلهل وقتل الابن وقال له: ذوء بشسع نعل كليب، وشسع النعل أي: ما يخرج من النعل الذي يضع فيه الإصبع، فهو يرى أن هذا الرجل لا يساوي إلا شسع النعل وليس النعل كاملاً.

فالله يقول: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:٣٣] ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:٣٣] واختلف العلماء: في الضمير: هل هو عائد على أولياء الدم أم على المقتول؟ والعامة تقول: النفس منصورة، يعني: لا بد أن يظهر قاتلها، لكن الأقرب -والعلم عند الله- أنه يعود على أولياء الدم، وقد استنبط ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من هذه الآية -وهذا من دقائق الفهم وعجيب العلم- أن معاوية رضي الله عنه سيلي الخلافة؛ لأن معاوية طالب بدم عثمان؛ لأنه من قرابته، فأصبح معاوية ولياً لدم عثمان، والله يقول: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:٣٣] وفراسة ابن عباس وتأويله ظهر جلياً بأن معاوية رضي الله عنه وأرضاه تولى الحكم بعد ذلك، بصرف النظر عن كيفية وصول الحكم إلى معاوية، لكن الذي يعنينا هنا من الخطاب القرآني: أن الله جل وعلا حرم الدماء، وقد مر معنا في قوله تعالى في البقرة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩] ولا حاجة للتكرار، لكن من أعظم الخطايا: أن يتجرأ الإنسان على دم مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -نقل هذا عن ابن عمر -: (لهدم الكعبة أهون عند الله من قتل مسلم) على عظيم حرمة الكعبة؛ لأن الكعبة لو تسلط عليها من تسلط بقدر الله فهدمها فإنها تبنى، لكن المسلم إذا قتل وسفك دمه فلا سبيل إلى إعادة الحياة إليه؛ فلهذا حرم الله جل وعلا الدماء وأغلظ فيها وهي أول ما يقضى فيه من حقوق العباد يوم القيامة، عافانا الله وإياكم من دماء المسلمين.

قال الله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:٣٣] أي: له الحق أن يتكلم وله برهان أن يطالب، {إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:٣٣].

ثم قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٤] مال اليتيم ذكره الله جل وعلا مجملاً هنا تمهيداً لآيات ستأتي في سورة البقرة؛ لأن الخطاب هنا خطاب للمجتمع المكي، وحتى يبلغ أشده يتحقق بطريقتين: طريقة بدنية، وطريقة عقلية، الطريقة البدنية بالقدرة على النكاح، والطريقة العقلية عبر الله عنها: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:٦] فإذا بلغوا النكاح هذه قدرة بدنية، والإنسان يحتاج إلى قدرة بدنية وقدرة عقلية حتى إن كان يتيماً استطاع أن يملك ماله، واليتيم: من مات أبوه دون البلوغ، وهذا في بني آدم، أما في الحيوان: فهو من ماتت أمه؛ لأن الحيوان لا يعرف أباه، وأما في الطير: فمن مات أبوه وأمه، الآن: الطفل مثلاً أبوه الذي يتولاه، يأخذه للخياط ويفصل له ثياباً، يأخذه المدرسة يسجله، يأخذه إلى الأحوال ليخرج له بطاقة، وفي الحيوانات (بهيمة الأنعام) الأم هي التي ترعى الابن، أما الطير فتشترك الأم مع الأب في رعاية ولدهما، فيسمى من فقد والديه من الطير يتيماً، ومن فقد والده من بني آدم يتيم، ومن فقد أمه من الحيوانات وبهيمة الأنعام يتيم، وهذه استفرادات لغوية لا تنفع ولا تضر.

الله حذر من أموال اليتامى، وهذا بيناه وسيأتي بيانه تفصيلاً، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:١٠] لكن هذه آيات مكية كتمهيد لما سيأتي من أحكام تفصيلية في المجتمع المدني.