للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[درء الحدود بالشبهات]

فهذه الثلاث الآيات ذكرت حد الزنا في فواتح سورة النور كما بيناها، وذكرنا في أولها الفرق بين الحد والقصاص.

ومن الفوارق بينهما كذلك أن الله جل وعلا جعل الحد لا يسقط ولا تجوز فيه الشفاعة، ولكن يسر الله على لسان رسوله دفع الحد بالشبهات، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).

ومن جملة ذلك ما يروى عن جماعة من الناس أتوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يستعدونه شاعراً يقال له: النجاشي، فاسقاً في لسانه، فهجا قوماً يتهمهم بما ليس فيهم، فكان عمر يدرأ الحد عنه بالشبهة، فكان يقصد بالبيت شيئاً فيحمله عمر على معنى آخر مع أنه ضليع في لغة العرب، حيث قال يهجو بني العجلان: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك.

فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل فقال عمر: ذلك أخف للزحام وأصفى للماء.

مع أنه أراد ضعفهم وعجزهم، وأراد عمر أن يغير المعنى، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من كعب بن عوف ونهشل فقال عمر: أجن القوم موتاهم.

يعني: هؤلاء قوم طيبون يدفنون موتاهم فلا تصل الكلاب إليهم.

فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: وما سمي العجلان إلا لقولهم خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل فقال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم.

وكلما ذكروا بيتاً خرج به عمر مخرجاً آخر، وهو يعلم مقصده، لكن هذا من باب: (ادرءوا الحدود بالشبهات) حتى وصلوا معه إلى أبيات لا يمكن دفعها، فجلده تعزيراً.

والذي يعنينا أن الإنسان يدرأ الحدود بالشبهات بقدر الإمكان، ومن أجل هذا أيضاً علق عمر حد السرقة في عام الرمادة؛ لأن شبهة الجوع والفقر وحاجة الناس كانت طاغية عامة من البلاء العام، فلم يقم الحد في ذلك العام، ولا يقال: ألغى عمر الحد، فهذا ليس لعمر ولا لغيره، ولكن علقه رضي الله عنه وأرضاه اجتهاداً لحاجة الناس آنذاك من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).

فهذا -أيها الأخ- ما تيسر قوله حول الثلاث الآيات الأول من سورة النور.

وفي الدرس القادم سنعرج على قضيتين أخريين، وهما قضية حد القاذف وقضية الملاعنة، ونكتفي بهما بإذن الله تبارك وتعالى.

وهذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله وأعان الله على أن نمليه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.