للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر خلاف العلماء في حكم التسمية عند التذكية]

واختلف العلماء رحمة الله تعالى عليهم في اشتراط التسمية عند التذكية على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن التسمية شرط في التذكية؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١١٨]، وقال هنا: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١]، وهذا القول ينسب إلى الجمهور، وهم يقولون: إن تارك التسمية -أي: الذابح التارك للتسمية- لا يجوز أكل ذبيحته، سواء أترك التسمية عمداً أم نسياناً، فالإنسان إذا لم يذكر اسم الله -سواء كان عامداً أم ناسياً- تدخل ذبيحته في قول الله جل وعلا: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١]، وهذا مروي عن أكابر السلف وكثير من الصحابة.

والقول الثاني هو قول الشافعي رحمه الله، والشافعي أحد الأئمة الأربعة، وكان موصوفاً بالذكاء، وإليه ينسب تأسيس علم أصول الفقه، فـ الشافعي رحمه الله تعالى حمل هذه الآية على ما ذبح وأهل به لغير الله، ورأى أن التسمية عند التذكية مستحبة وليست شرطاً، وما دام قد جعلها مستحبة فالتارك لها عمداً أو سهواً يجوز أكل ذبيحته، فمن تركها عند الشافعي عمداً أو سهواً جاز أكل ذبيحته؛ لأنه يرى -رحمه الله- ومن وافقه من أصحابه أن التسمية مستحبة وليست شرطاً كما فهمها الأولون.

والأولون لهم أدلة، منها حديث عدي بن حاتم وغيره، وإذا كان القرآن قد نص على المسألة فلا حاجة إلى ذكر كثير من الأحاديث، ولكن الأحاديث الواردة تعضد القول الأول.

وقول الإمام الشافعي هو بعده عن أحمد رحمه الله تعالى ذكرها عنه حنبل، وأنت تعلم أن الإمام أحمد متأخر زمناً قليلاً عن الشافعي، ولكن أحمد رحمه الله أدرك الشافعي، كما أنه رواية عن مالك، نص عليها أشهب بن عبد العزيز أحد أئمة المذهب المالكي.

القول الثالث: هو قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وأصحابه، وهذا القول كذلك مروي عن أكابر الصحابة، وهو أنه إن تركها عمداً فذبيحته لا تحل، وإن تركها نسياناً فنسيانه لا يضر.

وقول أبي حنيفة هذا يميل إليه أكثر المتأخرين؛ لأنه يجمع بين الآيات وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وعموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦]، فيمكن الاستشهاد بالآية والحديث لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

وبعض الفقهاء له تفريق جيد، فيقول: ننظر في الذبيحة، فإن كانت الذبيحة ذبيحة صيد، فنسي أن يسمي، فإنه لا يؤكل منها، وإن نسي وهي ذبيحة غير صيد، فذكاها تذكية شرعية؛ فإنه يؤكل منها.

ووجه التفريق عنده: أن الذبيحة من غير الصيد حصلت فيها الذكاة الشرعية من أولها.

أما الصيد فلم يذك في أول الأمر ذكاة شرعية، فقد يكون صيد عن طريق جارحة، وقد يكون عن طريق رصاص كما في عصرنا الحاضر.

والمقصود أنه يقول: إذا لم يسمّ اجتمع فيها أنه لم يكن أصلها ذكاة شرعية، وفي نفس الوقت تركت التسمية، فمن باب أولى أن يترك، وللنص الوارد في حديث عدي بن حاتم: (إذا أطلقت كلبك فصد وسم الله وكل)، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي وغيره التسمية.

والذي ينبغي على طالب العلم أن يفهم أن النصوص في الغالب واحدة، ولكن طرائق فهمها والاستنباط منها تختلف، والله جل وعلا ما جعل العقول على سنن واحد، وما جمع الناس في عقولهم على شيء واحد، وهناك مثل عند العامة، حيث يقولون: (إن الناس في رزقهم كلهم معترضون)، فكل واحد يرى أنه فقير، فيريد زيادة، (وفي العقول أغلبهم راضون بعقولهم) والذي يعنينا هنا: أن العلماء رحمة الله تعالى عليهم أرادوا خيراً، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم في جملتها أمة خير، فكيف بعلمائها، ولكن لهم طرائق في الاستنباط، وقد يعطى إنسان حظاً من فهم في مسألة لا يعطاه آخرون، وقد قال الله جل وعلا في نبيين كريمين: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٩].

فمثل هذه المسائل لا إنكار فيها باختلاف الأكابر من صالح الأسلاف فيها، فلا ينكر أحد على أحد، لكن الإنسان يحاول أن يستبصر أدلة كل فريق ويحاول أن يفقه النظرة التي يعتمدها الإمام زيد دون الإمام عمرو في الوصول إلى المسائل، وكيف يجمع بين هذا وهذا.

قال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:١٢١]، وبعض الفقهاء أراد أن يقول بصحة مذهب الشافعي، فجعل الواو هنا واو حال، وقال: إنه لا يصح مطلقاً أن تكون الواو واو عطف، فقال هذا لأننا لو قلنا: إن الواو هنا حالية لأصبح المعنى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١] حال كونه فسقاً أهل لغير الله به، فيكون المقصود ما يذبح للأوثان، وما يذبح لغير الله، فهذا المحتج قال في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:١٢١]: لا يصلح أن تكون الواو عاطفة قولاً واحداً، واحتج بأن الآية طلبية؛ لأن قول الله جل وعلا: {وَلا تَأْكُلُوا} [الأنعام:١٢١] طلب، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:١٢١] ليس بطلب، بل هذه جملة خبرية، فقال: إن الجملة الخبرية لا تعطف أبداً على الجملة الطلبية.

ويحتج عليه بالآية التي بعدها، فإن الله جل وعلا قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:١٢١]، وهو يقول عن هذه الجملة: إنها معطوفة، فوقع في نقيض قوله؛ لأنا متفقون على أن جملة: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:١٢١] خبرية، ومتفقون على أنها لا يمكن أن تكون حالاً، فالاستدلال هنا بالطريقة النحوية طريقة غير صحيحة.