[تفسير قوله تعالى: (الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب)]
قال الله جل وعلا في فاتحتها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:١]، وهذه السورة واسطة العقد في خمس سور افتتحها الله جل وعلا بحمد ذاته العلية، وهي سورة الفاتحة وسورة الأنعام، الواسطة الكهف، ثم سبأ، ثم فاطر، ولا يوجد غيرهن في القرآن افتتحها الله جل وعلا بحمده.
قال ربنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:١] وجه الربط ما بين حمده جل وعلا وثنائه على ذاته العلية وما بين إنزال القرآن يستبين منه أولي النهى: أن إنزال القرآن من أعظم النعم، ولذلك ذكر الله جل وعلا الحمد في هذه السورة، فالرب الذي أنزل على عباده القرآن العظيم هداية للطريق الأقوم مستحق جل وعلا للحمد والثناء، وفيه بيان شرف وفضل ورفيع القرآن.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:١]، العبد هنا المقصود به: النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، (والكتاب): الألف واللام في الكتاب للمعهود الذهني، المراد به القرآن العظيم.
(أنزل)، وهنا لابد من مبحث علمي؛ لأنه سيتكرر كثيراً، وعلى كل طالب علم إذا ضبط المسائل بجملة، وعرف طرائقها فإنه يستريح كثيراً في تفسير الآيات.
والإنزال في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، مع اتفاق السلف على أن المراد بالإنزال أنه يكون من أعلى إلى أدنى، وقلنا: إن الإنزال في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، وسنأخذ التقييد ثم نعرج على المطلق؛ لأن المطلق سنحيله بعد ذلك على المقيد.
فقد ورد الإنزال مضافاً إلى الرب تبارك وتعالى بمعنى أن يقال منزل من عند الله، وهذا لم يرد في كلام الله الإنزال على أنه من عند الله إلا في ذكر إنزال القرآن، قال الله جل وعلا: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢] فهذا إخبار أنه منزل من عند الله، وقال جل وعلا: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:١٠٢]، وقال جل ذكره: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:٨٠]، فأخبر جل وعلا أنه منزل من عنده، بنعته وبقوله جل وعلا، وهذا التقييد الأول، ولم يرد إلا في القرآن، أنه منزل من عند الله.
التقييد الثاني: أن يخبر أنه منزل من السماء: والسماء اسم جنس لكل ما علا، فقد أخبر الله جل وعلا عن أشياء أنها منزلة من السماء، قال الله جل وعلا: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:٢٢] والمقصود بالسماء هنا: السحب، بدليل قوله جل وعلا: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:٦٩]، وبدليل قوله سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:١٤].
ومما أخبر الله جل وعلا أنه من السماء: العذاب، قال الله جل وعلا: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:٥٩] فأخبر الله جل وعلا: أن الرجز من السماء.
ومما أخبر الله أنه أنزل من السماء قوله جل ذكره: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:٩٥] فأخبر الله جل وعلا أن الملائكة تنزل من السماء، ولا ريب أن السماء في الرجز، والسماء في الملائكة، والسماء في الماء تختلف كل بحسبه لكن المقصود أن تفقه أن الإنزال في هذه الآيات مقيدة، لكنه لم ينسب أنه من عند الله، فلم ينسب الله جل وعلا شيئاً أنه من عنده إلا القرآن، وهذا التقييد.
الإطلاق: هو أن الله يذكر الإنزال ولا يذكر جهته، أو لا ينسبه إلى شيء معين، ومنه قول الله جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:٢٥]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:٦]، فهنا لم يخبر الله جل وعلا من أين نزل، فيقال فيه: أن كل شيء بحسبه.
والإطلاق يحمل على المقيد الذي أخبر الله جل وعلا أنه من عنده، فالإطلاق الذي لم يذكر الله عز وجل فيه جهة النزول يحمل على التقييد الذي فيه أن إنزال القرآن أخبر الله أنه من عنده.
فقول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف:١ - ٢] ولم يخبر الله عن جهة الإنزال، ومثله قول الله جل وعلا: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:٨٠]، وقوله: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢] إلى غيرها مما ذكرناه آنفاً.
من هنا: نفهم ونعتقد ما كان يعتقده سلف الأمة من قبل وهو: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، اتفق السلف على هذا وأجمعت الأدلة عليه، وخالف في ذلك البعض من أصحاب الفرق الضالة لكن لا عبرة بخلافهم.
هذا معنى الإنزال، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:١ - ٢]، تعلمون يقيناً أن هناك سكتة ما بين (عوجا) وما بين (قيما)، والسكتة وجدت لسبب مهم جداً، وهو أن الله قال: (لم يجعل) هذا نفي أنه لم يجعل له (عوجا)، لكن الله جعل القرآن (قيما) فلو قرأناها من غير سكتة لأوهم هذا أن يفهم أن القرآن لا عوجاً ولا قيماً، وهذا ليس مقصود كلام الله، وإنما المقصود نفي العوج، وليس المقصود نفي أنه قيم.
قال الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:١ - ٢]، فـ (عوجا) مفعول لـ (يجعل)، وجملة: (ولم يجعل له عوجا) الجملة الفعلية كلها: حال من (الكتاب)، وكذلك (قيما) حال آخر، حال ثانٍ من (الكتاب).
إذاً: وصف الله جل وعلا الكتاب بحالتين: أنه أنزله على حال ليس بها عوج، وعلى حال أنه قيم، وهنا تفقه لماذا وجدت هذه السكتة اليسيرة ما بين (عوجا) وما بين (قيما).
وقد خالف في هذا الزمخشري رحمه الله لكن نفيه لهذا الأمر غير صحيح؛ لأن تعدد الحال نطق به القرآن، قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:١٥٠] فذكر الله حالين لموسى عندما رجع إلى قومه، قال الناظم: والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم أو غير مفرد (والحال قد يجيء ذا تعدد) يعني: يكثر من حال، (لمفرد) يعني: يكون صاحبه مفرداً، (فاعلم أو غير مفرد) أي: قد يكون صاحبه غير مفرد، والشاهد من البيت صدره وهو: أن الحال يأتي متعدداً.
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:١] أي: أن القرآن العظيم لا خلل في نظمه ولا تنافٍ في معانيه، بل إنه يدعو إلى الحق وإلى عدم العوج.