[بيان المراد بالاستئناس]
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:٢٧] (حتى) تأتي لابتداء الغاية، وتأتي لانتهاء الغاية، وقد قال أحد النحاة: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)، وأظنه أبا عمرو بن العلاء، فقد درس النحو وتعمق فيه، وكان من الأقدمين من شيعة سيبويه الأولين، يقول: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)؛ لأن ما بعدها يصلح له كل شيء، فلم يستبن له الأمر فيها.
فـ (حتى) هنا لانتهاء الغاية أو لابتدائها، وهذا كله يظهر حسب سياق القرآن.
فقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧] هذا أدب رباني يعلم الله فيه المؤمنين، ولكن الإشكال قائم عند العلماء في معنى الاستئناس، فالسلام معروف، واختلفوا في الاستئناس، فقال قوم: الاستئناس هو الاستئذان نفسه.
وقال آخرون: إن الاستئناس أن تحدث صوتاً قبل أن تستأذن، كأن تتنحنح أو ترفع من صوت سيارتك إذا قربت، أو تغلق بابها بقوة لتشعر أن هناك رجلاً قادماً.
والعلماء يقولون: إن الاستئذان ثلاث مرات: فالمرة الأولى حتى لينصت أهل الدار، والمرة الثانية ليستصلحوا، ويغيروا في أثاث البيت، والمرة الثالثة ليأذنوا أو ليقولوا لك: ارجع.
وبعض العلماء يقول: إن الاستئناس لا هذا ولا ذاك، وإنما هو ضد الاستيحاش، والاستيحاش: الوحشة، والقادم على أي دار يجد في نفسه وحشة وغربة، فهل سيقبله أهلها أم لا، فإذا قبل زالت عنه تلك الوحشة، ولذلك كان حرياً بمن يستقبل أن يقول: مرحباً أهلاً وسهلاً، فغربتك تشفى بكلمة (أهلاً)، أي: وجدت لك أهلاً يذهبون عنك الوحشة، فهذا هو الذي دفع أقواماً إلى أن يقولوا: إن الاستئناس هو من الأنس وإبعاد الوحشة.
يعني: لابد أن يتبين لك أن أهل الدار راغبون في استقبالك أو غير راغبين، فإن فهمت منهم -ولو أذنوا- أنهم غير راغبين؛ فالأولى والأحرى أن تنصرف.
وهذه المعاني لم تتعرض لها الآية، ولكنها استنباطات العلماء، وفرق بين النص وبين تعليق العلماء على النص، فالتقديس يذهب إلى النص، وعدم التقديس يذهب إلى غير النص.
نقول: ويدل على أن معنى الاستئناس ما ذكره قول الله جل وعلا: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:٢٩]؛ فإن موسى عليه السلام كان في حالة وحشة، فلما رأى النار ورأى النور زالت تلك الوحشة، كإنسان غريب ضائع تائه في صحراء مظلمة يخشى ويستوحش، فحين يرى عن بعد شيئاً ما تزول عنه تلك الوحشة تدريجياً.
قال تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧] أي: أهل الدار، وقد قلنا: إن الاستئذان قد دلت السنة على أنه ثلاث، كما في حديث عمر لما استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في تلك المشربة، فإنه بعث عبداً يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام، فرده مرتين فلم يجب وفي الثالثة قبله.
قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:٢٧].
أي: هذا التشريع الرباني والنص الإلهي والأدب القرآني خير لكم، ولابد من أن يكون فيه خير؛ لأنه من عند الله، والتذكر والتبصر لا يكون إلا بتعاليم الكتاب وتعاليم السنة.