[بيان صور من إذاقة الله تعالى بعض الأمة بأس بعضها]
والمهم من ذلك أنه بقيت الثالثة، وهي قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:٦٥] أي: يقع القتل في الأمة، وهذه مسألة منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتاها رغم حرصه صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا جرى ما جرى في التاريخ الإسلامي منذ أن قتل عمر رضي الله تعالى عنه، فبدأت الأمة يذيق بعضها بأس بعضاً بدءاً من يوم الدار، فالذين تسوروا الدار مسلمون يدعون الإسلام، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنهم كفار، رغم أنهم قتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأصوب القول أن يقال: إن عثمان مات وهو أمير البررة، أي: المؤمنين، والذين قتلوه يصعب أن نقول: إنهم كفار، ولكن نقول: إنهم قتلة فجرة، فالذين قتلوه قتلة فجرة، فمن الصعب أن يقال: إنهم كفار، بل قيل: إن بعضهم كانت له صحبة، كـ عمرو بن الحمق.
ثم كان بعد قتل عثمان موقعة الجمل، لما اجتهدت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وخرجت من المدينة ومعها ركب من مكة حتى أتت العراق، فكانت المقتلة بين فريقين كلاهما مسلم.
ثم كانت موقعة صفين بين علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام، وقتل فيها خلق كثير على رأسهم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهتدوا بهدي عمار)، ومع ذلك قتل رضي الله عنه وأرضاه، فليس قتله على يد فارس ولا الروم، ولا على يد اليهود والنصارى، وإنما على يد مسلمين؛ لأن الله قال: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:٦٥].
ثم جرت أحداث وأحداث، منها موقعة الحرة، سلط فيها يزيد بن معاوية على المدينة رجلاً يقال له: مسلم المري، وأهل المدينة آنذاك كان يسمونه مسرفاً، فتسور مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودخلها من ناحية الشرق، وفعل الأفاعيل في أهلها، وقتل خلقاً كثيراً، ومنهم كثير من الصحابة، حتى إنهم دخلوا على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأبو سعيد صحابي جليل معروف القدر، ومع ذلك أمسك ذلك الرجل بلحيته حتى كاد أن ينزعها كلها لا يعرف لـ أبي سعيد قدراً للجهل الذي فيه.
واستطراد تاريخ أهل الشام خارج عن الشأن، ويقال: إن فيهم ثلاثة أمور: شدة الطعن، وشدة الطاعة لمن يتولاهم، وفي بلدهم أمراض الطاعون، فأهل الشام في الغالب أكثر الناس طاعة للأمراء، ويقال: إنهم أشد الناس معصية للخالق، وهذه لا أتحملها، وإنما يقولها المؤرخون، ولكن فيهم سمع وطاعة عجيبة لمن يتولى أمرهم، ولذلك رضخوا لـ معاوية عشرين عاماً، في حين كان العراقيون يخالفون علياً بين الحين والآخر، رغم أن علياً أفضل من معاوية، وفي كل خير رضي الله عنهم أجمعين.
كما أن فيهم شدة الطعن، أي: في الحرب والقتال، وفي بلادهم تكثر الطواعين، كطاعون عمواس الذي مات فيه كثير من الصحابة، ومنهم أبو عبيدة ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما.
والذي يعنينا هنا أن أهل الشام لما دخلوا المدينة كانوا أشد الناس سمعاً لأمرائهم، فكانوا يفعلون ما يقول لهم الأمراء، ولم يرفع الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فهذا كله لقول الله جل وعلا: ((وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)).
ثم كانت دولة بني العباس، وفي أولها دخل عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور على دمشق حاضرة بني أمية، فقتل في ضحى ذلك اليوم أكثر من أربعين ألفاً كلهم مسلمون، والقاتل مسلم، وأسس دولة للإسلام، وهذا كله تحقيق للأمر القدري الذي منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه إياه.
وعلى هذا لو قرأت تاريخنا المعاصر ستجد في آخره ما وقع بين فتح وحماس، وكلهم مسلمون، وقبل ذلك ما سمي بأحداث أيلول الأسود التي وقعت في الأردن بين الفلسطينيين والأردنيين، وقبله ما حصل بين العراق والكويت، وهم في الجملة مسلمون، فهذه كلها أحداث تبين لك أن الله جل وعلا قضى قضاء، وقد قال لنبيه: (إنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عاقبة هذا، فسأل ربه، ولكن الله جل وعلا منعه لحكمة أرادها جل وعلا، وهو العليم الخبير والعزيز الحكيم جل جلاله.
والمقصود: أن هذه الإطلالة التاريخية تعين طالب العلم على فهم هذه الآيات، وعلى فهم أن لله جل وعلا سنناً لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، والناظر في التاريخ والمتأمل فيه يكون أقدر من غيره على نفع الناس وعلى قيادتهم وعلى توجيههم؛ لأنه من تلك الأحداث والأيام والليالي والصروف يستلهم الإنسان العظات والعبر، فيكون ما يوجه به أو يقرره أو يرشد به أو ينصح به متوافقاً في الغالب مع الوجهة الحقيقة؛ لأن هذه ثروات يجب اكتنازها، وموروثات يجب الاطلاع عليها، وهذا أمر مستفيض يطول ذكله، ولكنني اقتبست منه بعضاً، وأنا أتكلم عن قول الله جل وعلا: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:٦٥].