[بيان أسباب ضلال المشركين عن اتباع الحق]
الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد انتهى بنا المطاف في الدرس السابق إلى قول الله جل وعلا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:٨ - ٩]، والآيات من سورة الأنعام.
وكنا قد قلنا في فواتح تفسيرها: إن هذه السورة المباركة أثبتت الأصول الثلاثة: الإلهية لله جل وعلا، والرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإخبار عن البعث والجزاء، وأنها تضمنت أسلوبين هما أسلوب التقرير وأسلوب التلقين.
وإن استصحاب السيرة مهم في دراسة القرآن، فالمجتمع القرشي في مكة كان قد طبع على العناد وطبع على الأنفة، إضافة إلى حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وثمة عوامل مجتمعة كلها تدور حول فلك واحد، وهو أن الله جل وعلا لم يكتب لهم الهداية، ولكن أسباب عدم كتابة الهداية لهم كان لها عوامل كثيرة، ومن ذلك اعتراضات كانوا يعترضون بها على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الاعتراضات أنهم اقترحوا أن يضم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ملك، أو قالوا: كان من المفترض أن الله إذا أراد أن يبعث رسولاً أن يبعث ملكاً يصدق ويقبل عند الناس، ولا يبعث رسولاً من الناس.
فما جعله الله رحمة طالبوا بنقضه؛ لأن الله جل وعلا من رحمته بعباده أن جعل الرسل منهم، ولهذا قال الله جل وعلا ممتناً على أهل الإيمان: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:١٦٤].
فالنبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، وهذا من رحمة الله جل وعلا بنا، ولكن أهل الإشراك بما طبعوا عليه من العناد اقترحوا أن يكون مع الرسول ملك، أو أن يكون الرسول ملكاً، فحكى الله تعالى قولهم فقال: {وَقَالُوا} [الأنعام:٨] أي: أهل الإشراك {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ} [الأنعام:٨]، أي: على محمد، {مَلَكٌ} [الأنعام:٨]، أي: يعضده ويكون معه حتى نصدقه بزعمهم، قال الله جل وعلا: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:٨]، أي: ثم لا يمهلون.
وقول الله جل وعلا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:٨]، معناه من حيث الحرفية: انتهى الأمر، ومنه قول الله جل وعلا عن يوسف: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:٤١]، أي: انتهى الأمر.
ولكن ما معنى (قضي الأمر) إذا ارتبط بالملك؟ وما معنى (قضي الأمر) في الرسالة؟ إن لأهل العلم رحمهم الله في تحرير قوله تعالى: (لقضي الأمر) ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يقال: إن سنة الله جل وعلا في خلقه أن الأمم إذا اقترحت آية ثم لم تؤمن بها جاءهم عذاب استئصال، وقد مضى قدر الله أن هذه الأمة باقية؛ لأنها آخر الأمم، فلو جاء هذا الملك كما اقترحوا ولم يؤمنوا به وقد سبق في علم الله أنهم لن يؤمنوا به فستكون العاقبة تبعاً للسنن التي لا تتبدل ولا تتغير أنهم سيستأصلون.
وهذا يتنافى مع ما قدره الله جل وعلا لهذه الأمة، وهو أن تبقى، قال الله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧]، وهذه الأمة هي آخر الأمم، فلا يعقل أن تستأصل؛ لأن هذا يعني فناء الناس.
وهذا وجه قاله العلماء في معنى قول الله جل وعلا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:٨].
والوجه الآخر: أن يقال: إن هؤلاء الناس لا تقدر قواهم على رؤية الملائكة، فيصبح قوله: (لقضي الأمر) يعني: بمجرد أنهم يرون الملائكة سيفنون.
وهذا القول فيه شيء من الضعف، ولكن ثمة قرائن عند من قال به تؤيده، ومن قرائن ذلك قولهم: إن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم -وهم الصفوة من الخلق الذين هم في كنف الله جل وعلا وحفظه ورحمته بهم- لما رأوا الملائكة على هيئتهم خافوا وفزعوا.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصابته رعدة عندما رأى جبريل على صورته قد سد الأفق، وقال الله عن داود: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} [ص:٢١ - ٢٢]، قالوا: لأنهم كانوا ملائكة، فقالوا: إذا كان بعض أنبياء الله لم يقدر على أن يلقى الملك إلا بما آتاه الله فكيف لو مشى الملك بين الناس؟! فتوجيه قول الله جل وعلا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:٨]، عندهم: أن هؤلاء الناس لا تطيق قواهم رؤية الملائكة، وهذا عندي أضعف التوجيهات.
والتوجيه الثالث: التكليف مبني على الاختيار، فرؤية الملائكة آية ملجئة ينتفي معها الاختيار، وإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف، وإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف.
فالملائكة غير مكلفين؛ لأنهم ليس أمامهم إلا الطاعة، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، والتكليف: أن تعرض على المكلف أمرين ويختار أحدهما بعد أن تخبره بعاقبة هذا وعاقبة هذا.
فالعلماء يقولون: إن رؤية الملائكة آية ملجئة، فالإنسان إذا رأى الملائكة وقالت له: نحن من عند الله فإنه سيؤمن، ولن يكون أمامه خيار آخر ألا يؤمن، فإذا انتفى الخيار انتفى أس التكليف، والأصل أن الجن والأنس مكلفون.