تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب وكان عهد الله مسئولاً)
الحمد لله الذي به تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:١٣].
الحديث ما زال موصولاً عن حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض أيام غزوة الأحزاب، وقد مر معنا قولهم الذي حكاه الله عنهم: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:١٢] ثم حكى الله قولاً آخر لهم: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب:١٣] و (منهم) عائدة على قوله: (وإذ قالت طائفة منهم) أي: من أهل النفاق والذين في قلوبهم مرض، (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) وقد بينا هذا إجمالاً في لقاء ماضٍ، و (يثرب) اسم للمدينة قبل الإسلام، وهو اسم ممنوع من الصرف على لغة النحويين لسببين: اتفقوا على السبب الأول وهو: العلمية، والسبب الثاني: متشعب، فمن الممكن أن تكون (يثرب) ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل.
وممكن أن تكون العلة: العلمية والتأنيث.
ومعنى ممنوع من الصرف، أي: لا ينون ولا يجر بالكسرة، لا ينون مع أن التنوين من خصائص الأسماء، قال ابن مالك: بالجر والتنوين والنداء وأل ومسند للاسم تمييز حصل فالمقصود هنا: أن يثرب هذه كان اسمها على اسم أحد العماليق في أشهر أقوال أهل التاريخ قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين يريدون أن يتكلموا بخطاب دنيوي محض لا يقولون المدينة، بل يقولون: يثرب، ومنه قول جرير في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: أقل اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا قال يمدح شعره: دخلن-يعني: قصائده- قصور يثرب معلمات ولم يتركن من صنعاء باباً فلما أراد أن يتكلم عن حاجة دنيوية محضة قال: يثرب، ولم يقل: المدينة، وهنا هؤلاء المنافقون يريدون أن يعيدوها جاهلية كما كانت، فيردون قومهم إلى ما كانوا عليه من عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله عن بعضهم أنهم كانوا يقولون: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} [الأحزاب:١٣] ولم يقل: يا أهل المدينة فهو لا يريد أن يوقظ الحس الإسلامي الذي في قلوبهم، أراد أن يعيدها جاهلية كما كانت إسلامية: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).
الآن المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون الخندق ويرابطون، وهذه الطائفة تريد من أكثر الناس أن يعودوا، فقوله: (لا مقام لكم فارجعوا) تحتمل وجهين: الأول: لا مقام لكم في دين الإسلام فارجعوا إلى الكفر، وهذا يصح لأنه من مقاصدهم، لكن الآية والجو العام لا يساعد عليه.
الثاني: لا مقام لكم في المرابطة مع النبي صلى الله عليه وسلم فارجعوا إلى يثرب، (لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم) قيل: إنهم بنو حارثة، وبنو حارثة هؤلاء سبق لهم أن خذلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون) أي: سبب استئذانهم (إن بيوتنا عورة) معنى إن بيوتنا عورة أي: مكشوفة، معرضة للسرقة، لا يوجد بها رجال، والعورة كل مكان فيه خلل، والعورة تطلق على المكان المتوسط بين الجبال، قال لبيد: وأجن عورات الجبال ظلامها الذي يعنينا هنا قولهم: (إن بيوتنا عورة) فهل صدقهم الله أم كذبهم؟ كذبهم، قال الله جل وعلا: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:١٣] فلما رد الله جل وعلا زعمهم الذي أظهروه، أخبر الله بزعمهم الذي أخفوه، فقال: (إن يريدون إلا فراراً) أي: استئذانهم منك لا يقصدون منه -كما زعموا- أن يحموا بيوتهم، وإنما أرادوا الفرار من ملاقاة العدو، (إن يريدون إلا فراراً) ثم قال الله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:١٤].
هذه الآية اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً لكن أحاول أن أجمع لك شتاتها، (دخل) في القرآن تأتي كثيراً في وصف ذلك الغازي والفاتح، قال الله جل وعلا: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} [الإسراء:٧] وقال الله جل وعلا لبني إسرائيل: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:٢١].
وقال الله على لسان الرجلين الموفقين: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:٢٣] فالكل يتكلم عن غزو وفتح، فالله جل وعلا هنا يقول: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:١٤] القطر: الناحية، والمقصود: أقطار المدينة أي: نواحي المدينة، {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:١٤].
وأكثر أهل العلم على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك.
فيصبح معنى الآية: أن هؤلاء القوم الذين خذلوك ويريدون الفرار، لو طلب منهم الشرك لوافقوا عليه جبلةً غير متباطئين؛ لأن الإسلام أصلاً لم يدخل إلى قلوبهم، هذا قول، وعليه أكثر العلماء.
وقال الضحاك رحمة الله تعالى عليه من المفسرين: إن المعنى {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:١٤] أي: أنهم -وهذا قول قوي- ما خذلوك وفروا لأنهم جبناء، وإنما خذلوك وفروا لأنهم لا يريدون أن ينصروك، فالمعنى: لو كانت القضية قضية عصبية لما تلبثوا بها إلا يسيراً أي: لحاربوا ودافعوا، فالمراد بالفتنة في قول الضحاك: القتال من أجل العصبية.
قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:١٤] لكن أكثر أهل التفسير على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك، ويؤيده قول الله جل وعلا: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:٣٩].
قلنا: إن بني حارثة سبق لهم أن فروا يوم أحد، فذكرهم الله جل وعلا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل، فقال الله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:١٥].