[تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام)]
قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:١٩٤].
الحرمات: جمع حرمة، كما تقول: حجرات جمع حجرة، والحرمة: الشيء الذي ينبغي أن يحفظ ويصان ولا ينتهك, فكلما ينبغي أن يحفظ ويصان ولا ينتهك يسمى حرمة.
أما تفسير الآية: فأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، وكلهن في ذي القعدة, وذو القعدة شهر حرام, والأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد, فالثلاثة السرد ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وأما الفرد فهو رجب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة، وذو القعدة شهر حرام, وفي ابتداء عمرته في يوم الحديبية ردته قريش, فلما ردته انتهكت ثلاث حرمات: حرمة الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة، وحرمة البلد الحرام الذي هو مكة, وحرمة العمرة التي أحرم لها.
فرجع النبي صلى الله عليه وسلم وحل من إحرامه, فقريش بهذا انتهكت ثلاث حرمات, لذا قال الله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:١٩٤]، ولاحظ كلمة (قصاص) يعني: مساواة, وقلنا آنفاً: إن قريش انتهكت حرمة الشهر، وحرمة البلد, وحرمة الإحرام, ونظيره في السياسة قول عائشة -لما قتل عثمان: لقد انتهك الخوارج ثلاث حرمات: حرمة الشهر الحرام ذي الحجة، وحرمة البلد وهو المدينة، وهي بلد حرام, وحرمة الخلافة.
فأمر الخلافة شرعاً أمر معظم, ولهذا الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يدفنوا نبيهم عليه الصلاة والسلام أجمعوا أمرهم على أبي بكر؛ لعلمهم بحرمة الخلافة ومكانتها, فقتلة عثمان انتهكوا ثلاث حرمات، والذين صدوا النبي صلى الله عليه وسلم انتهكوا ثلاث حرمات كما قدمنا.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر ذلك العام، فعمرة الحديبية كانت عام ستة, وما يسمى بعمرة القضاء كانت عام سبعة، وعمرة الجعرانة كانت عام ثمانية، والرابعة كانت مع حجه عليه الصلاة والسلام في السنة العاشرة.
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخلت قريش مكة له دخلها عليه الصلاة والسلام، ونزحوا إلى الجبال, فهذا معنى قول الله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:١٩٤]، وكأن الله يقول: ردوك يا نبينا عام ستة فأدخلناك إياها عام سبعة, فكل الثلاث عادت، فأحرم صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة, ودخل البلد الحرام وبقي على إحرامه عليه الصلاة والسلام.
وهذه الآية -وهي: قول الله تعالى-: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٩٤] يطنب فيها الفقهاء؛ لأنها تحتمل عدة أشياء, فإنسان أخذ مالك ثم ظفرت بماله أتأخذه أم لا تأخذه؟ فيها أقاويل خلاصتها: لو تسلط أحد ما على مالك ثم وقفت على ماله بقدر الذي أخذ منك جاز لك أن تأخذه, ولا يسمى سرقة ولا نهباً ولا ظلماً؛ لأن الله يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤].
فمثلاً: إذا خدعك شخص ما فأخذ منك عشرين ألفاً, ثم اكتشفت بتعاملك معه أنه أراد خداعك, فقال: أقرضني, ثم أنكر, وأنت وثقت به فأعطيته عشرين ألفاً, فما لبث أن أنكرها وجحدها، ثم لم يلبث أن وقفت على عشرين ألفاً له: إما وجدتها على مكتبة أو في درج سيارته، أو ما أشبه ذلك, واستطعت أن تحصل عليها، فلك أن تأخذها بدلالة الآية.
وهناك حالة واحدة لا يجوز أن تأخذ فيها وهي: إذا نسي وأعطاك إياها أمانة, أي: نسي صنيعه الأول وأعطاك إياها أمانة، فليس لك أن تأخذها إذا طلبها؛ لأن النبي قال: (ولا تخن من خانك).
إذاً: فإذا كانت على وجه الائتمان فلا ينبغي أن تأخذها وإن قال به بعض العلماء, لكن أحب إلينا ألا تفعل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تخن من خانك).
هذا كما في قول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢] وفي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ} [الأنفال:٣٠] وفي قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال:٥٨] فلم يقل: خنهم, وإنما قال: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:٥٨] أي: بين لهم الأمر على جلاء.