تفسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب إلى قوله: وما بدلوا تبديلاً)
ثم قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:٢٢].
من حيث الصناعة العقدية: هذه من أعظم الأدلة لمذهب أهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- على أن الإيمان يزيد وينقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأن الله قال: (وما زادهم إلا إيماناً) وليس بعد كلام الله كلام، فأثبت الله جل وعلا بمقتضى هذه الآية لنا: أن الإيمان يزيد وينقص، وهناك آيات أخر بنفس السياق، لكن نحن الآن في الآية التي بين أيدينا.
وهنا
السؤال
الله يقول: ولما رأى المؤمنون الأحزاب، أما معنى: رأى المؤمنون الأحزاب هذه ظاهرة، فقد رأى المؤمنون الأحزاب بأعينهم، لكن قوله: (هذا ما وعدنا الله ورسوله) ما الذي وعدهم الله ورسوله؟ للعلماء -أيها المبارك- فيها قولان: قول يقول: إن المقصود بالآية: أن هذه الأحزاب ابتلاء من الله، فهذا وعد الله وهذا يردهم إلى القرآن، قال الله جل وعلا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤]؛ لأن نهاية البقرة من أوائل ما أنزل، فيصبح المعنى: أن هؤلاء المؤمنين لما رأوا الأحزاب تذكروا الابتلاءات التي أخبر الله بها، فقالوا: هذا الذي نراه الآن مما وعدنا الله به ورسوله، هذا قول.
وآخرون قالوا: إن المقصود بقول الله جل وعلا: (لما رأى المؤمنون الأحزاب هذا ما وعدنا الله ورسوله) على ما قلنا في اللقاء الماضي: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم في معركة الخندق وهو يحفر: أنه ستفتح لهم فارس والروم وأبواب صنعاء.
والآية تحتمل المعنيين ولا يوجد تعارض بينهما، قالوا: وهذا ما وعدنا الله ورسوله، (وصدق الله ورسوله)، وقد بينا فضيلة الصدق في اللقاء الماضي، (وما زادهم) أي: هؤلاء المؤمنين (إلا إيماناً وتسليماً).
ثم قال الله جل وعلا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣]، من أوائل من يدخل في هذا المدح الرباني والتبشير الإلهي: أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه وأرضاه عم أنس بن مالك، وكان الناس -كما هو الحال في زماننا- أحياناً يسمون أبناءهم بأسماء قراباتهم، فسمي أنس بن مالك باسم عمه، أي: أن مالكاً هذا أراد أن يبر أخاه أنساً فسمى ابنه باسم أخيه.
وأنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه لم يكتب له أن يشهد بدراً، فأخذ يعاتب نفسه ويقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيب عنه لئن شهد النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل، ثم خاف أن يزيد عليها، حتى لا يقع منه ألا يبر ما نطق به، فلما كان يوم أحد قابله سعد بن مالك رضي الله عنه في ساحة المعركة، فقال: واهاً يا أبا عمرو! إلى أين؟ قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وأحد الجبل الذي كانت في أسفله أو دونه أو بجواره المعركة، فـ أنس رضي الله عنه علم الله منه صدقه، قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وقد يقولها منافق، ولكن هذا الصحابي الجليل المبارك رضي الله عنه وأرضاه استشهد يوم أحد، ووجد وفيه أكثر من بضع وثمانين جرحاً ما بين ضربة أو طعنة أو رمية، وهذا يدل على أنه أبلى بلاءً شديداً رضي الله عنه وأرضاه.
فمن أوائل من يدخل في هذه الآية المباركة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣]: أنس بن النضر ومصعب بن عمير وأجلاء الصحابة ممن استشهد يوم أحد أو بعده أو قبله.
ثم قال الله جل وعلا: (فمنهم) أي: من هؤلاء (الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قضى نحبه)، والنحب -أيها المبارك- ما التزم الإنسان الوفاء به، فلما كان النحب ما التزم الإنسان الوفاء به وكان الموت مما لابد منه، سمي من لاقى الموت: قاضياً نحبه.
وعلى ذكر الموت فقد أدركنا أجلاء في المدينة كبار السنة يربون أبناءهم على حقائق ويقينيات منذ الصغر، حتى ينشأ صلباً في وجه ما يعتريه أكثر من غيره، وكانوا يربون أطفالهم على حقيقتين: لا نجاة من الموت، ولا سلامة من الناس.
يقول حسان: وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً من الناس إلا ما جنى لسعيد يعني: إذا كان الناس لا يقولون فيك إلا ما هو فيك فأنت تعتبر سعيداً، لكن محال ألا يقول الناس فيك إلا ما هو فيك، بل تجد منهم من يبالغ في مدحك ومن يبالغ في ذمك، وقلما سمعت قولاً صادقاً يحكم فيك بما هو فيك.
قال: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم) رضي الله عنهم وأرضاهم (من ينتظر) أي: ما زال على هذا الطريق العظيم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين قيل فيهم (ومنهم من ينتظر) يدخل فيهم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه يوم أحد: أوجب طلحة، وقيل: إنه ممن قضى نحبه ولكنه كان يمشي على الأرض رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد أبلى طلحة بلاءً عظيماً يوم أحد في الثبات والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله يمدح أولئك الأخيار الذين كانوا شامة في جبين الأيام، وتاجاً في مفرق الأعوام، قال عنهم: (وما بدلوا تبديلاً) وفي هذا تعريض بحال المنافقين، والذين قال الله فيهم كبعض بني حارثة: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:١٥].
من حيث الصناعة النحوية: (ما): نافية، (وبدلوا) فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، وواو الجماعة هذه ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، و (تبديلاً): مفعول مطلق، وهناك من الفضلاء من ليس بصاحب صنعة نحوية، وهذه الأشياء قد يراها مفاجئة، لكن ثق تماماً أنه مع الدربة ومع الأيام ستصبح جزءاً من شخصيتك، أنت ما هو كيانك الجسدي؟ كيانك الجسدي بناؤه من الغذاء الذي تأكله مع الأيام، ما هو بناءك الثقافي؟ هو العلم الذي تسمعه مع الأيام، فلا يمكن أن تقول: إن الغذاء هذا أو ذاك هو الذي شكل تلك الجزئية من جسدك، لكن مع بعضها البعض، شكلت هذا الجسم المكون بقدر الله.
وكذلك العلم، فما تسمعه يصبح جزءاً من شخصيتك، والذي يتكلم وينطق ويحاضر ويخطب إنما يقول ما استقر في ذهنه من علوم ومعارف سمعها أو وعاها عبر سنين وأيام وشهور، فكلما طال بياته وجمعه للعلم ثبت ورسخ إذا تكلم، أما إذا رأيته طار قبل أن يريش وحاول أن يستوي على سوقه قبل أن يتم تمامه فإنه لن يلبث حتى يسقط عافاني الله وإياكم من السقوط.