[قصة ذهاب موسى إلى الخضر]
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:٦٠]، فتى موسى هو: يوشع بن نون بالاتفاق، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ساس بني إسرائيل بعد موسى.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} [الكهف:٦٠]، أصل الأمر الذي دفع موسى إلى أن يحلف: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:٦٠]، أي: أمشي سنين عديدة، والدافع إلى ذلك بينته السنة، وهو حديث ابن عباس عن أبي بن كعب: أن موسى عليه الصلاة والسلام وقف خطيباً في بني إسرائيل فوعظ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فتبعه رجل من بني إسرائيل قال: يا نبي الله! هل أحد في الأرض أعلم منك؟ فنسي موسى أن يرد العلم إلى ربه فقال: لا، فعاتبه ربه أن في الأرض من هو أعلم منك، قال: يا رب! وكيف لي به، قال الله له: خذ حوتاً في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمة يعني: موجود، فأخذ حوتاً في مكتل ومعه غلامه يوشع بن نون، ووصلوا إلى مجمع البحرين، واستراح موسى، وبقي يوشع يحرس نبي الله، فالحوت ردت له الروح فخرج وأتى البحر، فضرب الله كالطاق محدد على الحوت، ويوشع يتعجب وينتظر متى يستيقظ موسى ليخبره، فاستيقظ موسى ونسي يوشع أن يخبره، واستمرا في سيرهما، فجاع موسى وأصابه التعب، وطلب من فتاه الغداء، ولم يكن الحوت هو الغداء وإنما الحوت علامة فلما طلب الغداء تذكر قضية الحوت: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف:٦٣].
رجع قال الله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:٦٤]، وسيخبرك بما تفيده الآيات، لما رجع وجد الخضر مغطى، فوقف موسى على رأسه وقال له: السلام عليكم، فكشف عن غطائه وقال: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، فتعجب الخضر كيف قدم عليه موسى، قال: جئت أطلب على يديك، أخذ عنك علماً، قال: أنت على علم علمك الله إياه لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت، فأخبره موسى بإلحاح أنه سيطلبه فتوجه معهما كما سيأتي: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:٦٠].
اختلف الناس أين مجمع البحرين؟ على أقوال أربعة، وقل ما إن يحصيها أحد إلى أربعة، وهذا فائدة أن يأتي الإنسان متأخراً؛ لأنه يستطيع أن ينظر في أقوال السابقين: فذهب قوم إلى أنه ملتقى بحر فارس والروم، والمعنى: أنه مضيق باب المندب الآن، وقال محمد بن كعب القرضي أحد أئمة التفسير قال: إنه في طنجة اليوم عند مضيق جبل طارق، في ملتقى المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط.
وذهب البقاعي رحمه الله واختاره الأمين الهرري، وليس شيخنا الأمين الشنقيطي؛ فإن الأمين الهرري معاصر حي، متع الله به، ونفعنا والمسلمين بعلمه، مال إلى هذا الرأي، وهو أنه في مدينة دمياط في أرض مصر، التقاء المالح بالعذب في دلتا مصر في دمياط، وحجة هؤلاء من حيث النظر قوية، وهم قالوا: إن الحديث دل على أن عصفوراً يأتي ينقر في البحر، والعصفور لا يشرب من الماء المالح، فلا بد أن يكون مجمع البحرين هذا فيه ماء عذب، وهذا يكون في دلتا مصر، هذا الرأي الثالث، لكن يرد عليه أن المانع من قبوله أنه لن يعرف أن موسى بن عمران بعد خروجه من مصر رجع إليها، لكنه كان مع قومه في أرض التيه، فلا يعرف أنه دخل مصر ووصل إلى دمياط، وكذلك القول أنه ذهب إلى طنجة بعيد؛ لأن القضية قضية أنه ترك قومه وأتى إليهم، وهذا لم يذكر في القرآن وهذه الحقبة الطويلة ماذا فعلوا فيها؟ فهم في ثلاثين يوم عندما ذهب لميقات ربه عبدوا العجل، فلو كان ذهب إلى طنجة سيطول ذلك العصر، فالسفر يحتاج إلى آماد بعيدة، وكذلك ما يقال عن طنجة يقال عن باب المندب، إذاً بقينا بقول رابع، لا بد من قول رابع.
القول الرابع قاله الشعراوي رحمه الله، وهو: أنه اجتماع خليج السويس مع خليج العقبة، وهذا ما أذهب وأميل إليه إلى ساعتي هذه، ولابد من قرينة تبين ذلك والقرينة أن الله قال: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:٦٤]، وهذا يلزم منه أمران: اللازم الأول: أنه في شيء يظهر عليه أثر المشي، وإلا فلا وجود للأثر، فتكون صحراء.
الأمر الثاني: قول الله جل وعلا: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:٦٤]، فيه نوع إشعار أن هذه المنطقة لا يوجد فيها معالم ممكن أن يستدل بها موسى ويوشع، ولو كان فيها معالم ما احتاج إلى أن يقال: ارتد على {عَلَى آثَارِهِمَا} [الكهف:٦٤]، يعني: يرجعون حسب المعاني التي مروا بها، فيعرفون يمين هذا الجبل مثلاً ويمين هذا البحر، ويسار هذا النهر، فدل على أنهم كانوا في صحراء، والصحراء هذه لا ينطبق عليها إذا قلنا خليج السويس، وخليج العقبة إلا صحراء سيناء، فإذا قلنا: إنه كان في صحراء سيناء فيتفق مع سياق القصص القرآني عن موسى بأنه خرج من أرض مصر يريد أرض فلسطين: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:٢١].
وهي أريحا، فهذا يتفق مع قصص القرآن مع أنه لم تطول المدة في الخروج عن قومه كل يتفق إلى حد ما نقول إن هذا القول الرابع الذي ذكره الشعراوي رحمه الله أقربها إلى الصواب، ولا أدري هل قاله أحد قبل الشعراوي أو لم يقله، والعبرة عندي بقرب القول من الصواب والعلم عند الله.