للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محاجة موسى وفرعون]

فلما دخلا عليه وعرضا عليه الرسالة قال فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:٤٩]؟ فأجاب الكليم: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠]، كان فرعون يعلم أن رب موسى هو الله، لكن من باب الاستكبار وإظهار أن الله لا يستحق العبادة خوفاً من انفراط قومه عنه، فأجاب الكريم إيجاباً مختصراً: ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))، فالخلق مقدم على الهداية، والنعمة نعمتان: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، فمن حيث الترتيب الزمني: فإن نعمة الخلق والإيجاد قبل نعمة الهداية والإرشاد، ومن حيث كونها نعمة وفضلاً ومنة فإن نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد، والله جل وعلا هنا لما كان يتكلم موسى عليه السلام ويبين فضل الله، كان يتكلم عن القضية من باب ترتيبها الزمني، ولما تكلم جل وعلا عن ترتيبها في الفضل قال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:١ - ٣]، فقدم نعمة الهداية والإرشاد على نعمة الخلق والإيجاد في سورة الرحمن، أما هنا فقدم الخلق لأن موسى يتكلم مع كافر، فيريد أن يبين له الأمر.

قال تعالى: ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))، فخلق الحيوان وهداه إلى ما ينفعه، وخلق النبات والجماد، وأضحى كل شيء يتصرف بالقدر الذي هداه الله جل وعلا إليه، وهذا أمر محسوس، والكلام فيه نوع من الترف الذي يكفي عنه إيجاز القرآن، هذا كله في الكلام عن الرسالة، وفرعون كان ذكياً، فأراد أن يخرج موسى من جو الرسالة، أراد أن يخرجه من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، فقال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١]؟ والقرون الأولى لا تعد، ولا أخذ موسى عليه السلام يعدد من هم قوم نوح ومن هم قوم ثمود، ومن هم قوم عاد، وذلك حتى يأتي الغلط على لسانه؛ لأن هؤلاء لا يحصون، والكلام فيهم لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، وهذا الذي أراده فرعون أن يخرج بالخطاب عن مقصده من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، ((قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) فتنبه الكليم لمقصد فرعون فأجمل في الخطاب: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٥٢]، أي: أنا رسول، وهذا غيب، ولا اطلاع للرسول على الغيب إلى بمقدار ما علمه الله، {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}، وهذه قد مرت معنا، أننا نقول: إن الله جل وعلا بكل شيء عليم، وأن علمه جل وعلا يوصف بأنه لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، ودليله هذه الآية: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}، (لا يضل) أي: لا يجهل، (ولا ينسى) النسيان المعروف، وأي أحد يأتيه النقص في علمه من عدة أوجه، فيأتيه في أنه يعلم ثم ينسى، ويأتيه النقص في أنه يجهل ثم يتعلم، ويأتيه النقص في أنه يتعلم ثم لا يحيط علماً بما علم أو بما يعلم، فتفوته أشياء، وهذه الثلاث كلها منتفية في حق الرب تبارك وتعالى.

ثم أخذ موسى يعدد التعريف بربه، قيل: إن هذا من كلام موسى، وقيل: إنه من كلام الله، والعلم عند الله، قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٥٢]، ثم ذكر الخلق: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:٥٣ - ٥٤]، هنا أراد موسى عليه السلام -إذا قلنا: إن الكلام لموسى في نفس السياق الخطابي إلى فرعون- أن يعرف بربه، وعندما تضرب أمثالاً أو تعرف بأحد فاذكر أقرب ما يكون إليه، وألصق ما يكون بحياته؛ لأن هذه لا سبيل إلى إنكارها؛ ولهذا قال الله لمشركي العرب: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:١٧]؛ لأنهم يغدون ويروحون معها، فقالها قبل السماء وقبل الأرض، رغم أن السماء والأرض آيات عظيمة باهرة، وهذا لا تعارض فيه، لكنه قدم ما هو الألصق حتى يكون أقرب إليهم، فالمقصود من المثل تقريب الأمر وليس إبعاده، فإذا كان المثل إذا ضرب يجعل القضية عائمة غير واضحة فإن المثل غير موفق؛ ولهذا لما أراد موسى أن يعرف بربه قال: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)) وهو الغيث والمطر، ((فَأَخْرَجْنَا بِهِ)) أي: بهذا المطر، ((أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى))، شتى في كل شيء، منه ما تأكله الدواب، ومنه ما يأكله بنو آدم، ومنه ما لا يأكله لا الدواب ولا بنو آدم إنما هو للزينة، ومنه الحامض، ومنه الحلو، ومنه غير ذلك، أنواع شتى خلقها الله جل وعلا ثم قال جل وعلا: ((كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) أي: شيء لكم وشيء لدوابكم، ((إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: في هذه الأمور كلها الدالة على عظيم خلقه ((لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى) أي: ذوي العقول، ولم ترد كلمة (النهى) في القرآن العظيم إلا في موضعين كليهما في سورة طه، قال الله جل وعلا: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى))، وقال جل وعلا في خاتمة السورة، بعد أن ذكر أخبار الأمم السابقة والكتاب والميزان والأجل المسمى، ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:١٢٨].

والمقصود: أن أهل العقول هم أقدر الناس وأولى الناس وأشد الناس تهيئة لأن يعتبروا بما يرونه أمامهم.

ثم ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:٥٥]، والكلام كله عن الأرض، وقد مر معنا أن خلق أبينا آدم مر بمراحل: أولهن: المرحلة الترابية من قبضة قبضت من الأرض، وهذا معنى: ((مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) أي: باعتبار خلق أبيكم، وإلا فإن الناس خلقوا من نطفة، (وَفِيهَا) أي في الأرض (نُعِيدُكُمْ)، والمقصود: أن الإنسان مرده إلى القبر، وحتى لو قلنا: أن إنساناً التقمه حوت، أو افترسه سبع؛ فإن الحوت والسبع مآله إلى أن يموت، ثم مآله إلى أن يتحلل في الأرض، فسواء دفن الشخص بطريق مباشر أو لم يدفن بطريق مباشر فإن مصيره إلى أن يكون تراباً، يقول أبو العلا المعري في أبياته الفلسفية الشهيرة: خفف الوطء ما أظن اديم الأرض إلا من هذه الأجساد غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي رب قبر صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد سر إن استطعت في الهوى رويداً لا اختيالاً على رفات العباد إلى آخر ما قال في قصيدة معروفة المقصود منها أن الأرض أكثرها موتى قبروا فيها، والله يقول: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) ثم قال: (وَمِنْهَا) أي: من الأرض، ((نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)) وهذا الإخراج يكون يوم البعث والنشور، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر، فيجد أخاه الذي نتحدث عنه الآن آخذاً بقوائم العرش، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا أدري أفاق قبلي -أي موسي- أم جوزي بصعقة الطور)، وقوله: (أم جوزي بصعقة الطور) أي: أن نفخة الفزع أو الصعق لم يدخل فيها موسى عليه الصلاة والسلام.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أدري) يقفل الباب في البحث في المسألة؛ لأن ما جهله النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعلمه أحد غيره، اللهم إن لم يكن بحثاً غير مجزوم فيه من باب الترف العلمي والسبق في مضمار أقدام العلماء.

نخلص من هذا كله: أن الله جل وعلا اصطفى هذا الكليم، وقربه أدناه، وكان في أول أمره همه جذوة من النار، فعاد وهو كليم الواحد القهار، ثم لما من الله عليه بالرسالة أحب أن يشرك الله جل وعلا أخاه في الرسالة، فقبل الله جل وعلا له هذا السؤل، وذكره بالمنن الماضية، وكيف نشأ محفوظاً برعاية الله جل وعلا حتى جاء على قدر بين يدي الله، يكلمه ربه ويعطيه مقام التكليم.

ثم بعثه الله جل وعلا إلى فرعون، وليس موسى أول الرسل إلى أرض مصر؛ بل قد دل القرآن على أن هناك رسلاً قبله، ومنهم يوسف عليه السلام، قال الله جل وعلا على لسان مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:٣٤] أي: من قبل موسى، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:٣٤]، وهذا ظاهره -والعلم عند الله- أنه لم يبعث رسولاً بعد يوسف إلى أهل مصر.

ولما وقف موسى بين يدي فرعون خاطبه فرعون بقوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:٤٩]؟ فعرفه موسى عليه الصلاة والسلام بربه، فلما احتار فرعون في الجواب أراد أن يخرج عن ماهية الخطاب، ويشغل موسى بقضايا الحكايات، فرده موسى إلى أمور الرسالات: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٥٢]، وهذه تعلم المرء كيف يجادل الآخرين، وأنه أحياناً من يجادلك يحاول أن يخرجك من الشيء الذي تجيده إلى الشيء الذي لست متمكناً فيه، فلا تمكنه من مراده، وإنما عد به إلى الجادة التي تحسنها؛ لأن الإنسان إذا تكلم بالشيء الذي لا يعرفه قد تنكشف سوءته، وتظهر عورته، وخير له ألا يقتحم حججاً لم يؤصل عليها ولم يعرفها، ولا يستسلم لخطاب الغير في قضية مجاراته في طرائق عدة، ولذلك قال موسى: ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى))، ثم توالت آيات تبين ما من الله جل وعلا به على الخلق تظهر ربوبيته، وهذه الأمور لا يستطيع فرعون و