للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وكفى بربك وكيلاً)

ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:٦١] ذكر الله جل وعلا هنا قضية سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس، وهذه القصة مرت معنا كثيراً نأخذها هنا بما يناسب واقعها في سورة الإسراء: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:٦٢]، ومر معنا: أن الله جل وعلا كرم آدم بأمور أربعة: أولها: أنه خلقه بيده، والأمر الثاني: نفخ فيه من روحه، والأمر الثالث: أسجد له ملائكته، والأمر الرابع: أنه علمه أسماء كل شيء.

فلا نقول إن الله جل وعلا كرم آدم بدخوله الجنة، وإن كان هذا تكريم، لكن كل مؤمن سيدخل الجنة، ولكن لن يقع لأحد من الخلق أنه خلقه الله بيده من بني آدم إلا آدم؛ فلهذا قلنا: إن يوسف على الشطر من جمال آدم: {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:٩] ونسب الروح هنا إلى الله من باب إضافة التشريف، وأسجد له ملائكته والسجود هنا: سجود تحية لا سجود عبادة، وعلمه أسماء كل شيء، وهذا لا يعلم أن الله جل وعلا أعطاه أحداً من الخلق: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:٦٢ - ٦٣] وهذا مر معنا كثيراً: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:٦٤].

ثم بين الله فضيلة التوحيد فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:٦٥]، يفهم منها أن المقصود أي: ليس له سلطان عام، بمعنى: ليس له أي نزغات على بني آدم، وهذا خلاف الصحيح حتى تظهر القضية؛ لأن هذه قضية قل الحديث عنها.

النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته حديثاً وذكراً يقال عند الجماع، وأخبر أنه إذا قدر في تلك الليلة ولد فإن الشيطان لا يضره، وليس المعنى: أنه لا يضره ألبته؛ لأنه لو قلنا: إن الشيطان لا يضره ألبتة فالمعنى: أن هذا المولود لن يعصي الله قط، وهذا محال، لكن المقصود هنا: أنه لا يصل به إلى الشرك.

والله جل وعلا لم يعط أصلاً سلطان قوة للشياطين، فما قاله بعض القراء من نفوذ أمر الجن على بين آدم بهذا التوسع الذي نشاهده غير صحيح؛ لأن الله قال حكاية عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢]، فليس لإبليس ولا للجن سلطان ظاهر قوي على بني آدم كما يزعم وعاظ القراء.

وإنما هي أمور مقدرة بقدر وحدود لا يمكن للجن أن يتجاوزوها وإلا لاضطرب ميزان الكون وناموس الدنيا، قال الله هنا: {إِنَّ عِبَادِي} [الإسراء:٦٥] إضافة تشريف {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:٦٥] أي: لا سبيل لك ممن كتبت لهم النجاة أن تجعلهم مشركين بي؛ لأن كونهم إذا أشركوا لن ينجوا فلن يكونوا عباداً لله.

فالله جل وعلا حافظهم ألا يقعوا في الشرك، أما ما دون ذلك فقد يقع منهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم)، وحتى البدريون وهم أعلى الأمة مقاماً وقعت منهم معاص، لكنهم ماتوا على التوحيد وهم أجلاء الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، لكن لا مانع من وقوع المعاصي منهم، كما وقع من قدامة بن مظعون عندما شرب الخمر متأولاً، والذي يعنينا: الفهم الجيد للآية؛ فأحياناً الإنسان يبالغ في تزكية الناس، فإذا زكى أحداً قال له: هذا لا يقربه الشيطان، والدين ليس بالألفاظ العامية، ولا بالمدح، ولا بالقناعات، قال جل وعلا: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:٦٣] والآية هنا في مقام التخليد؛ لأن الخطاب لشيطان وأتباعه، والشيطان مخلد في النار، فهو يتكلم عن أهل الكفر ولا يتلكم عن أهل المعاصي.

ولهذا فبعض العلماء عندما جاءت قضية يوسف عليه الصلاة والسلام قال: إن يوسف لن يقع منه الهم، ونحن نؤمن أن يوسف لن يقع منه الهم يقيناً، لكنها العبرة بالدليل يعني: عندنا أدلة تكفي بأن يوسف لن يقع به الهم فلا يحتاج إلى أدلة ضعيفة؛ لأنك إذا سقت أدلة ضعيفة مع وجود دليل قوي ضعفت الدليل القوي، فمثلاً: بعض من ينتسب للدين يبالغ في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه ما ورد من آثار صحيحة في الكتاب والسنة عن حب الله لنبيه كافٍ في حقه صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج لأن نجلب أشياء موضوعة نمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يضعف تلك القوة، فقالوا: إن إبليس شهد أن يوسف لم يهم بالزنى، قالوا: إن الله قال في حق يوسف: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] وقال في مناظرته لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:٦٥] إذاً: إبليس ليس له سلطان على يوسف في أن يبتليه، ولو كان للشيطان على يوسف سلطان لدفعه للمعصية، فإذا لم تكن في قلبه نوازع خير وشر فليست له منقبة في أنه امتنع؛ لأن المنقبة في التزام التكليف؛ ولهذا قال الله جل وعلا على لسان امرأة العزيز: {فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:٣٢] واستعصم: تظهر أن هناك مغالبة من يوسف ليدفع الشر عن نفسه والأذى والفجور، ولما دافع عن نفسه الفجور ودافع عن نفسه الهم وحاربها وبعد عن نزغات الشيطان علي مقامه، وارتفع ذكره، وخلد الله جل وعلا عفافه عليه الصلاة والسلام.

نعود للذي نريد أن أن نحرره: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:٦٥] ليس المعنى: لا سلطان لك عليهم ألبتة، وإنما المقصود: سلطان الإشراك، وإلا فكل أحد تقع منه المعصية إلا الخلاف حول الأنبياء، والذي يرجح أن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر على السواء قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:٦٥] وقد يندرج تحت الآية: أن من تقع منهم المعاصي من عبادي الذين كتبت لهم الخير والفضل والمآل الحسن تقع منهم بعد ذلك توبة، فينجم عن تلك التوبة قبولهم وبعدهم عن الشيطان، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١].

ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرف بالله جل وعلا، وهذا سنلتقي به في اللقاء السادس إن شاء الله.

هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.