للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج)]

ثم قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:٦١].

للعلماء في النظر في هذه الآية طريقان: الطريق الأول: اختاره أبو حيان في البحر المحيط، وهو أن الواو في قوله جل وعلا: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١] واو استئناف، وإذا قلنا: إن الواو واو استئناف في قوله جل وعلا: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١] فإن المعنى الأول يصبح غير مرتبط بالثاني؛ وخرج هؤلاء قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:٦١] على أن المعنى: ليس عليهم حرج في القعود عن الجهاد، وإن لم يسبق للجهاد ذكر.

وهذا المنحى في ظننا بعيد، وإنما الواو واو عطف في قوله جل شأنه: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١]، فالذي اختاره أبو حيان نرجح غيره عليه.

فجماهير أهل العلم على أن الواو عاطفة، ولكنهم اختلفوا في العلاقة بينهما في المعنى، فذهب بعضهم إلى أن بعض الناس كان يتحرج من الأكل مع ذوي العاهات، فأنزل الله هذه الآيات.

وقال آخرون بغير هذا، وقبل أن أذكر الرأي الذي أختاره أمهد بتمهيد لابد منه، فأقول: لا يمكن أبداً فهم القرآن منفرداً عن السنة، وفهم السيرة النبوية باب عظيم، ومدخل كبير لفهم القرآن، يمر معك كثيراً في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع أحداً أميراً على المدينة حالة خروجه للغزو، ولن يكون هناك أمير إلا إذا وجدت رعية، فيصلي بهم ويقوم بأمرهم، وهؤلاء هم الذين يقعدون عن الجهاد، والذين يقعدون عن الجهاد الأصل فيهم أنهم يقعدون لعذر، ومن الأعذار المرض والعرج والعمى.

فهؤلاء الذين يقعدون عن الجهاد يملكهم الذين ذهبوا للجهاد مفاتيح البيوت، ويجعلونهم أوصياء على أهليهم، وهذا لم يكن يتم في ليلة ونهار، فأحياناً يكون هناك سفر، لشهر أو أقل أو أكثر، وفي هذه الفترة يحتاج الناس إلى الأكل، فهؤلاء القاعدون عن الجهاد يدخلون تلك البيوت التي استؤمنوا عليها، ويخالطون أبناء المجاهدين، فينشأ عن ذلك أكل وإطعام، فربما تحرج أولئك القاعدون من أولي الضرر من ذلك الطعام والأكل، فالله جل وعلا يريد أن يبين هنا أن الأصل في المؤمنين أنهم كالنفس الواحدة، وأن المؤاكلة وطيب النفس في الطعام أمر محمود، فيخبر بأنه لا حرج ولا إثم على الجميع أن يأكل بعضهم من بيوت بعض، ولهذا عدد الأعمام والأخوال وغيرهم من القرابات والأصدقاء بعد ذلك، ولكنه بدأ بالأعمى والأعرج والمريض؛ لأن الأصل أن الخطاب موجه إليهم، وهو يريد جل وعلا أن ينبئ أولئك الأخيار من ذلك الجيل الأمثل والرعيل الأكمل الأول المخاطب بالقرآن أن الأصل فيكم أنكم كالجسد الواحد، ولهذا سيأتي قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١] على أنهم كالشخص الواحد، فهذا هو الذي أفهمه من كلام الله، وهذا القول -من حيث الجملة- أشار إليه سعيد بن المسيب رحمة الله تعالى عليه.

ولم يذكر الله بيوت الأبناء، وقد تكلم في ذلك العلماء، إلى مزيد نظر، والعلماء تكلموا فيه من قبل وذهبوا في هذا إلى أن الله لم يذكر بيوت الأبناء لأنها مندرجة في قوله جل وعلا: {بُيُوتِكُمْ} [النور:٦١]؛ لأن بيت الولد ملك لأبيه؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وهذا بيان عظيم الإنصاف بين الولد ووالده، وأما ما عدا ذلك فهو ظاهر.

قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور:٦١] المفاتح: جمع: (مفتح)، ومفتح ومفتاح بمعنى واحد.