تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين وأعز نفراً)
ثم ذكر الله جل وعلا بعد أن ذكر الفريقين حقيقة، وهم صناديد قريش، والفقراء ضرب مثلاً، وضرب المثال تقريب للشيء البعيد، ولابد أن تكون صورة المثال مقربة للشيء المبهم، وإلا تصبح غير موفق في ضرب المثال؛ لأن الضرب في حقيقته ضرب اليد بشيء آخر، فأنت عندما تريد أن تعاقب أحداً أصغر منك، أو أضعف منك جسماً، إذا ضربته آلمته، فتحقق مقصودك، لكنك إذا ضربت بيدك شيئاً أقوى منك، كمن يضرب حديداً، أو صخراً، أو ما أشبه ذلك فإنه هو المتضرر، ولا يصبح هو الضارب.
كناطح صخرة يوماً ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل فالوعل إذا نطح الصخرة بقرنيه هو الذي يتأثر، وليس الصخرة.
فضرب المثال لابد أن يكون شيئاً مقرباً للمستمع لمن يراك، ولمن تريد أن تضرب له مثالاً، فلا تجنح به بعيداً، فيكون مثالك أصعب من الشيء الذي أردت إزالة الإبهام عنه.
قال الله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [الكهف:٣٢] هل هذا حقيقة، أو مجرد ضرب مثل؟ كل ذلك محتمل، وهل هو في عهد النبوة، أم في الزمن الغابر؛ في عهد بني إسرائيل؟ هذا هو الأظهر، وأياً كان الأمر هذا مثال ضربه الله جل وعلا.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا} [الكهف:٣٢] أي: أحطناهما، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ} [الزمر:٧٥].
{وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} [الكهف:٣٢ - ٣٣] أي: ولم تنقص منه شيئاً، ولا يوجد تظلم في القرآن بمعنى: تنقص إلا في هذه الآية، والأصل: في النخل والكروم وغيرها، أنها إذا طال الأمد عليها ليس في كل عام تفي بغلتها كاملة، لكن هذا الرجل من الله عليه بأن شجره وزرعه ونخله يؤتي أكله في كل حين كاملاً.
{وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف:٣٣] أي: مجرى ماء.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:٣٤].
المقصود: بقول الله جل وعلا: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:٣٤] أي: كان له مال آخر غير الشجر؛ لأن الثمر في لغة العرب يطلق: على الولد، وكل ما تمولته، وعلى الذهب والفضة، والحلي، وسائر ما تمتلكه يقال له: ثمر، هذا أسلوب العرب في كلامها، قال النابغة الذيبان ي: وهو يعتذر لأحد الملوك: مهلاً فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد أي: ما أنمي، وما أملك من مال ومن ولد فداء لك.
والنابغة الذبياني أحد رءوس الشعراء الجاهليين، وكانوا يقولون: إن أشعر الجاهليين ثلاثة: امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، والنابغة إذا رهب.
معنى الكلام: امرؤ القيس إذا ركب: أي إذا خرج يصطاد، فوصف الصيد، والأعشى إذا طرب: فقد كان سكيراً، إذا بلغت الخمرة منه مبلغها، والنابغة إذا رهب أي: إذا خاف واعتذر؛ لأن الخوف يدفع إلى الاعتذار، وهو أحد أصحاب المعلقات ومطلع معلقته: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد وقفت فيها أصيلاناً أسائلها عيت جواباً وما بالربع من أحد نقول: إن قول الله جل وعلا: ((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)) أي: له مال آخر غير ذلك الزرع.
((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ)) أي: قرينة.
{وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا} [الكهف:٣٤] وهذا ظاهر بالجنتين وما فيهما، {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:٣٤] النفير: من إذا استنفرته نفر معك، ويقصد: أكثر أولاداً، والدليل على أنه يقصد أكثر أولاداً: ما بعدها، لأن العبد الصالح قال له: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:٣٩] فمالاً: تأتي مقابل: ((أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا)) وولداً: تأتي مقابل: ((وَأَعَزُّ نَفَرًا)) ففهمنا من أن النفر هنا: بمعنى: الولد، ولهذا قلنا: إن من أراد أن يفسر القرآن لا يستعجل، وإنما يرى الآيات مكتملة، ثم بعد ذلك سيهدى إن شاء الله إلى أقوم السبل.