للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات)]

ثم قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:٢٠٣] والذي مضى هي الأشهر المعلومات، وأما الأيام المعدودات فالراجح أنها أيام التشريق، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله)، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:٢٠٣] ومن القرائن كذلك ما بعدها، وأيام التشريق تكون في منى بالاتفاق، والمبيت في منى واجب ليومين لمن تعجل، وثلاثة أيام لمن لم يتعجل، ومنى مشعر عظيم من أعظم المشاعر، ولا يمكث الحجاج في مشعر أكثر من مكوثهم في منى.

وقد مر معكم في دروس سبقت أن في منى مسجد الخيف، والخيف في اللغة: ما انحدر من الجبل ولم يلامس الوادي، فإذا جعلت جمرة العقبة خلفك ستصبح مكة خلفك، وسيكون عن يمينك جبل وعن شمالك جبل، فالجبل الذي على يمينك الذي في سفحه مسجد الخيف هو جبل ثبير الأثبرة، وهناك خمسة جبال في مكة اسمها ثبير، فمن أجل هذا قلنا ثبير الأثبرة، فالجبل المقابل لثبير يسمى الصابح، وهو مواجه له، وفي سفح جبل ثبير الأثبرة هذا قبل أن ينحدر إلى الوادي يوجد مسجد الخيف، قال صلى الله عليه وسلم: (صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً)، وكفى بك شرفاً ومن الله فضلاً ونعمة عليك أن تصلي في مسجد صلى فيه قبلك سبعون نبياً آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى جميع صلواته في منى في مسجد الخيف في أيام التشريق، وأيام التشريق التي قال الله فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:٢٠٣] ومع الذكر يكون رمي الجمار، وما وجد رمي الجمار إلا ليذكر الله.

ثم قال ربنا: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:٢٠٣] إذاً: أين المناط يا ربنا؟ قال الله: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:٢٠٣] فالعبرة بتقوى القلب، فمن كان تقياً وتعجل خير ممن لم يتعجل ولم يرزق تقوىً؛ ولهذا قال الله: (لمن اتقى)، ومن جمع التقوى مع عدم التعجل فهو أفضل لسببين: السبب الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل.

والسبب الثاني قطعاً: أن زيادة يوم تعني زيادة عمل، وزيادة العمل تعني زيادة الأجر إذا قُرن العمل بالإخلاص، فمن تعجل فلا إثم عليه بنص كلام الله، ونحن لا نتكلم في أن عليه إثم لكن نتكلم في أيهما أرفع درجة، وقطعاً من لم يتعجل أعلى أجراً.

قال ربنا: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:٢٠٣] فالعبرة بتقوى القلوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وقال في حديث آخر: (التقوى ههنا ويشير إلى صدره)، صلوات الله وسلامه عليه.

{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:٢٠٣]؛ لأن ضمة الجمع في أيام الحج تذكر بالحشر الأكبر، فالإنسان إذا لم يلن قلبه في تلك المواطن فربما يلين في غيرها، فلا نحجب التوبة عن أحد، لكن يكون أبعد في أن يلين في موطن آخر؛ لأن هذه المواطن تذكر بجمع الناس؛ ولهذا قرنها الله جل وعلا بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:٢٠٣]، ومن علم أن إلى الله جل وعلا المحشر، وإلى الله جل وعلا المآب، وإلى الله المرجع خف تعلقه بالدنيا وزهد فيها، اللهم إلا أعمالاً يغلب على ظنه أنها ينفع الله بها البلاد والعباد، فهذه لا حرج أن يسابق فيها؛ لأن إيصال الخير للمسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفع الناس مادياً ومعنوياً إذا قرن بالإخلاص فهو مما ترفع به الدرجات، ولئن يتمكن أهل الفضل والصلاح خير من أن يتمكن أهل الفساد والشر.

قال الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:٢٠٣] قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل، فرمى الجمار فبدأ بالصغرى، ثم بالوسطى، ثم بالكبرى.