[أقسام الفاصلة في القرآن]
ويمكن تقسيم الفاصلة إلى أربعة أقسام: الأول: التمكين، ويقصد به: تلك الفاصلة التي يكون ما قبلها ممهداً لها، مثل قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:٢٥]، فأنت تكتب صدر الآية والفاصل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:٢٥]، والفاصلة هي قوله: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:٢٥]، وما قبلها كان ممهداً لها.
فحتى لا يفهم أن رد الذين كفروا كان قدراً واتفاقاً جاءت الفاصلة لتبين التمكين، فظهر من لفظها قدرة الله جل وعلا؛ ليطمئن المؤمن ويغاظ الكافر هذا أول أقسام مدلولات الفاصلة وهو التمكين.
الثاني: التصدير، وهو أن يكون صدر الآية دالاً على آخرها، فتصبح هذه الفاصلة مأخوذة لفظاً من صدر الآية، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:١٠]، فهذه الآية فاصلتها: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:١٠].
الثالث: التوشيح، وهو نظير التصدير، لكن التصدير مأخوذ لفظاً، وأما التوشيح فمأخوذ معنىً، قال الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك:١٣]، فختمت بقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:١٣].
الرابع: الإيغال، من أوغل فلان في الأمر، أي: زاد فيه ودخل وتعمق، فكل هذه المعاني تدور في فلك الزيادة.
والإيغال في الفاصلة: أن تتضمن الفاصلة معنىً زائداً على صدر الآية، قال ربنا مثلاً وهو أصدق القائلين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:٨٨]، فقد انتهت الآية من حيث المعنى وتم معنى الآية، ثم قال الله بعدها في فاصلة ختمت بها هذه الآية: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨].
فهذه الفاصلة زادت معنىً وهو أنهم لا يأتون بمثله مجتمعين، أي: حتى ولو اجتمعوا فلا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فهذه الفاصلة زادت معنىً زائداً عن صدر الآية، فيسمى هذا النوع إيغالاً.
ويأتي الإيغال وله جرم آخر وموضع آخر عند البيانين وأهل البديع ضمن الإيجاز والإيغال وأمور أخر غير علاقته بالفاصلة؛ يأتي في الآية.
إذاً فالإيغال يأتي على ضربين: يأتي جزءاً من أقسام الفواصل، ويأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها، فكيف يأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها؟ إن الآية تقطع على من يسمعها الزيادة، فبعض الشعراء وهذا يظهر عند ابن المعتز كثيراً: يأتي بأبيات تتضمن معان تلزمك ألا تسأل، فكل ما خطر ببالك سؤال ألجمك الكلام الذي تسمعه، مثاله: يقول الله جل وعلا: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة:٢٦٦]، ومعلوم أن الجنة لا بد أن يكون فيها نخيل وأعناب، فهذه من نخيل وأعناب زيادة على أنها جنة، قال الله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:٢٦٦]، والأنهار أصلاً من لوازم كلمة جنة، لكن هذا إيغال، وزاد إيغالاً آخر فقال: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:٢٦٦]، فهذا إيغال آخر تكفي عنه كلمة جنة.
لكن المقصود -والمقصود غير الوصف- منه هنا إظهار شدة التأسف والتحسر على جنة بهذا الوصف، قال الله تعالى: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} [البقرة:٢٦٦]، لما قال: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} [البقرة:٢٦٦] يأتي
السؤال
أهم شيء ترك ذرية وإلا ما ترك ذرية؟ قال الله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} [البقرة:٢٦٦]، فيأتي
السؤال
أضعفاء هم أم أقوياء؟ فيأتي الإيغال: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} [البقرة:٢٦٦]، قال الله: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} [البقرة:٢٦٦]، ولم يكتف: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} [البقرة:٢٦٦]، وكلمة (فيه نار) من لوازمها الاحتراق، لكن قد يقول قائل: ربما لا تحترق، فيأتي السؤال: هل احترقت؟ قال الله: {فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:٢٦٦].
فهذا الإطناب الذي يجيب عن كل سؤال ربما يخطر على البال يسمى في الصناعة الشعرية: إيغالاً، والقرآن قرآن عربي، فما يقال من أساليب العرب في كلام أهل الشعر ينزل على أساليب القرآن، لكن لا يقال للقرآن شعراً، وقد قلت مراراً: إن طه حسين الأديب المعروف على ما فيه وليس هذا مقام القضاء بين عباد الله المقام استفادة من الكلام والمقام اشتشهاد، طه حسين عرف الشعر والنثر، فقيل له: والقرآن شعر أو نثر؟ فأجاب بكلمة بليغة فقال: القرآن قرآن ليس له اسم إلا قرآن، فلا يسمى شعراً ولا يسمى نثراً، لكنك إذا كنت قوياً في معرفة أساليب العرب في كلامها أعطيك مفاتح من مفاتيح عدة لتدبر كلام الله جل وعلا، وأن تكون فارساً مقدماً فيه.