للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص)]

بعد أن بين الله ذلك كله، نشأ مجتمع متدين، فيه هذه المنزلة العالية من الإيمان جاءت الأحكام الشرعية التي لابد من إيضاحها للناس، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨].

القصاص: هو المماثلة والإتباع، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:١١] اتبعي أثره، كما هو ظاهر الآية، وقد ورد قول الله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:٦٤] أي: يتبعون آثار قد سلفت ومضت، فهذا معنى المماثلة والإتباع في أصل اللغة.

يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨] أي: فرض، {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:١٧٨]، هل صدر الآية منفك عن عجزها أو أن صدر الآية متصل بعجزها؟ هذا مربط الفرس، ومعقد الأمر في فهم العلماء للآية، فمن فهم أن صدر الآية منفك عن عجزها وما بعدها بمعنى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨] شيء مستقل لم ينظر إلى ما بعدها ولا إلى غيرها؛ جعل القصاص في كل قتيل حتى بين الكافر والمسلم؛ لأنه أخذها بالعموم وجعل ما بعدها إنما هو تأكيد، وأجرى الكلام على مجراه وفق سنن العرب.

وجمهور العلماء يجعلون صدر الآية مؤسس لما بعدها، فلا يقنعون بأن نقف عند قول الله جل وعلا وننهي الحكم في قولنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨]، فلهذا استثنوا من ذلك أمور.

والحق -والعلم عند الله- أن الله قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥]، وقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء:٣٣]، ولم يحدد {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:٣٣]، فلا يستثنى إلا من استثنته السنة، ومن استثنته السنة اثنان: الأول: الكافر إذا قتله مؤمن، فلا يقتل مؤمن بكافر، إذا لا يقتل ولي الله بعدوه.

الثاني: الوالد مع الولد، وكلمة الوالد تشمل الأجداد وإن علوا، فلا يقتل والد بولده، إلا أن مالكاً رحمه الله استثنى من هذه واحدة وهي أن الوالد إذا أخذ ابنه وأضجعه فذبحه بهذه الصورة متعمداً وليس عن حالة غضب ولا عن حالة تأديب وإنما باختياره فإنه يقتل به، وهذا القول تميل إليه النفس؛ لأن الأب في مثل هذه الحالة التي يفعلها جهاراً عامداً تخلى عن أبوته، لكن الجمهور على أنه لا يقتل والد بولده.

قول الله جل وعلا: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:١٧٨] هذا على سنن العرب في كلامهم فلا يعني ذلك أن الأنثى لا تقتل بالذكر أو أن الذكر لا يقتل بالأنثى، كما أنه لا يعني أن الفرد لا يقتل بالجماعة أو أن الجماعة لا تقتل بالفرد؛ لأن هذا فيه استباحة للدماء، وقد رفع لـ عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن غلاماً من أهل صنعاء قتله سبعة فقتلهم به، وقال رضي الله عنه وأرضاه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء كلهم لقتلهم به؛ لأنه لو قلنا: إن الجماعة لا يقتلون بالفرد يأتي إنسان له عدو فيذهب إلى رفقاء له ويتفق معهم على قتل غريمه حتى يستحيل شرعاً قتلهم جميعاً بهم، فتهدر الدماء، وتضيع أموال الناس، لكن يقتل الجماعة بالفرد كما يقتل الفرد لو قتل جماعة من باب أولى.

قال الله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:١٧٨] هذه الآية العلماء يستدلون بها على أن أخوة الإيمان لا ينزعها شيء.

{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨]، والمعنى: أن الإنسان إذا تنازل عن حقه في القصاص فإن له أن يقبل ويعطى الدية، فيكون الأداء من نفس صاحب الجناية بإحسان إليه.

والناس في زماننا هذا سلكوا بها مسالك غير محمودة، وأنا وقفت على بعض أمور شرعية أو إدارية لا يحسن نشرها، لكن المبالغة في طلب الفدية أمر غير محمود شرعاً، وصحفنا -للأسف- تعج بأخبار لا تحمد في هذا الشأن، فيقال: مثلاً إن أهل الميت يتنازلون إذا دفع لهم كذا كذا من الأموال، وهذا أمر غير محمود، ولا أؤيد أن يسهم البعض فيه، وقد بينت هذا كثيراً في دروس لنا سلفت؛ لأن هذا فيه نوع من المتاجرة، لا بأس بالشيء المعقول أو أن يطلب الإنسان القصاص الذي هو له، أما أن يأتي أولياء دم ويريدون أن يغتنوا على حساب ميتهم فهذا أمر غير محمود أبداً.