تفسير قوله تعالى:(وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً إلى قوله: قل عسى أن يكون قريباً)
إن الحمد لله نحمده ونستينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا اللقاء الخامس حول سورة الإسراء، وكنا قد انتهينا إلى قول ربنا جل وعلا:{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}[الإسراء:٤٩ - ٥١].
نقول مستعينين بالله جل وعلا: إنكار البعث مسألة تأصلت عند المشركين الأوائل، ولهذا قال الله عنهم:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}[التغابن:٧]، وفي هذه الآية يقول الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا:{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}[الإسراء:٤٩]، يتساءلون تعجباً واستنكاراً، وإلا فهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، أي: كيف يعقل أن تدب فينا الحياة ونبعث وقد أضحينا عظاماً ورفاتاً؟! قال الله:{قُلْ كُونُوا}[الإسراء:٥٠]، وقل هنا: مزيد اختصاص، والآية تتكلم عن البعث والإيمان بالبعث واليوم الآخر أحد أركان الإيمان:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا}[الإسراء:٥٠] قد يقول قائل: ما علاقة الحجارة والحديد بالعظام والرفات؟ عقلياً: هذه العظام وهذا الرفات أصلاً كان خلقاً تدب فيه الحياة، ثم ماتوا ثم أصبحوا عظاماً ورفاتاً، أما الحجارة والحديد فلم تكن أصلاً أحياء، فالله يريد أن يقول لهم: إن الأمر ليس بمعجز لله تعالى، فلو فرضنا جدلاً: أنكم كنتم حجارة ليست فيها حياة أصلاً من قبل، أو كنتم حديداً ليس فيه حياة من قبل لاستطاع الله جل وعلا أن يحييكم ويبعثكم، فكيف وقد كنتم أصلاً أحياءً؛ لأن هذا العظام أصلاً خارج عن حي.
إذاً: ليست القضية قضية أنكم كنتم أمواتاً فأحياكم الله، بل القضية قضية قدرة إلهية لا يعجزها شيء، أي: أن قدرة الله لا يستعصي عليها شيء، والله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فكونكم كنتم عظاماً أو رفاتاً أو كنتم حجارة أو حديداً أو ما يخطر ببالكم ويقع في أفئدتكم:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ}[الإسراء:٥١]، أي: يعظم {فِي صُدُورِكُمْ}[الإسراء:٥١]، فكل ذلك بالنسبة لله جل وعلا لا يعجزه، ومع ذلك فإن دلائل العقل بالنسبة إلى عقولكم: أن من قدر على الخلق الأول على غير مثال سبق قادر على الإحياء مرة أخرى من باب أولى، قال:{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}[الإسراء:٤٩ - ٥١] ليس فقط عظاماً ورفاتاً، بل كونوا أي شيء فإن الله قادر على أن يبعثكم.
قال:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا}[الإسراء:٥١]، طبعاً سؤالهم سؤال تهكم، لكن كلما تهكموا وحادوا عن المجادلة ردهم الله إلى المجادلة الحق، هم يقولون ذلك تهكماً:{فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا}[الإسراء:٥١] فلم يقل: قل الله، لكن حتى يذكرهم بمبدئهم قال:{قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الإسراء:٥١] والمعنى واحد.
{فَسَيُنْغِضُونَ}[الإسراء:٥١] أي: يحركون رءوسهم استهزاءً: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ}[الإسراء:٥١] وكل ذلك سخرية، لكن الخطاب القرآني معهم يبقى جاداً كلما حادوا ردهم إلى الجادة فلا يجعل لهم مفراً، قال الله جل وعلا:{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}[الإسراء:٥١] وعسى من الله واجبة، والبعث قريب آت، فلذلك عبر الله عنه بقوله:{قَرِيبًا}[الإسراء:٥١].