للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)]

{وَجَعَلَهَا} [الزخرف:٢٨] الفاعل عند جمهور أهل العلم هو إبراهيم، وبعض العلماء على أن الضمير يعود على لفظ الجلالة، ومن قال: إنه يعود على لفظ الجلالة يغلب بأنه جاء في آخر الآية: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ} [الزخرف:٢٨]، وكلمة (لعل) هنا لا تناسب أن تسند إلى رب العزة، فنرجح أن فاعلها عائد على إبراهيم، ولها مفعولان الهاء في (جعل)، و (كلمة) مفعول ثاني، وأما (باقية) فهي صفة، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:٢٨]، والعقب في اللغة هو مؤخر الرجل، وفي الاصطلاح: كل قوم ليس بينهم وبين أبيهم أنثى.

{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:٢٨] الكلمة: هي كلمة التوحيد والبراءة مما يعبد من دون الله، وأنا الآن أفصل حرفياً وسأجمع شتات هذا كله؛ لأن هذه الآية يهمنا جداً فهمها.

سنقول ما قال المفسرون ثم نقول رأينا، فأهل التفسير يقولون: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من أهل الأوثان، وهذا حق، وتولى ربه، وهذا حق وظاهر، وجعل هذه الكلمة في عقبه باقية يرجعون إليها إذا حادوا جعلها علامة وإشعاراً لهم، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:٢٨]، وقالوا من الدلائل: أن الله قال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة:١٣٢].

معنى الكلام عندهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قالوا: إن هذا الأمر الذي رجاه إبراهيم لم يتحقق كله، فآمن بعض ذريته ولم يؤمن بعضهم، قال الله جل وعلا: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:١٢٤] في خطابه لإبراهيم، ثم قال الله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:٢٩] أي: أن هؤلاء الآباء الذين هم آباء قريش لم ينتفعوا بكلمة من إبراهيم باعتبار أن إبراهيم أن لإسماعيل، وإسماعيل أب لـ عدنان، وهؤلاء عرب عدنانيون؛ لأن نسب النبي ينتهي إلى معد بن عدنان.

وعلى هذا نجم أنهم فهموا أن ثمة شيئاً من الدين كانت قريش مطالبة به حتى توسعوا، فقال الطاهر بن عاشور غفر الله له ورحمه: ومما يستروح من الآيات من قول الله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:٢٨] إلى قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف:٢٩] أنه لم يكن هناك مشرك في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أجداده كانوا يضمرون الإيمان ويخفونه ولم يصرحوا به؛ مخافة الفتنة من قومهم.

وهذا أمر عندي في غاية الغرابة والبعد، وقد قلت في درس خلا تنبه لقول الله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:٢١]، وقلنا: إن هذا استفهام إنكاري أنه لم يأتهم كتاب، ولئن كان الأمر ينطبق عليهم كما قال الطاهر بن عاشور أو غيره فإنهم يكونون مطالبين بالصحف التي أنزلت على إبراهيم، والله قد نفاها عنهم وبين أنهم لا يملكون دليلاً نقلياً.

والعلماء يربطون ما بين قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:٢٨]، وبين قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف:٢٩]، والذي أراه والعلم عند الله: أن قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:٢٨] لا علاقة لها بقول الله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف:٢٩]، فهناك انفكاك تام، والمعنى: أن إبراهيم جعل هذه الكلمة في ذريته التي كانت على مقربة ممن كفر به؛ لعلها إذا شاعت في ذريته يرجع من لم يؤمن به عن الكفر، ومن أعظم القرائن على ذلك: أن قوم إبراهيم لم يهلكوا، وبقيت الأمور معلقة في أذهانكم لكن الوقت انتهى، وسأبينها تفصيلاً في أول اللقاء القادم، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.