ثم قال الله:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء:٢٩]، والحسير: الدابة في السفر، فإذا عجزت وانقطعت عن تكملة طريقها سميت: حسيراً، وقد عجزت؛ لأنها بذلت جهداً فوق طاقتها في أول السفر، فلا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت، فربنا يقول: لا تكن شحيحاً كمن يده مغلولة إلى عنقه؛ لأن الذي يده مغلولة إلى عنقه لا يستطيع أن يضعها في جيبه حتى ينفق، ثم قال:{وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}[الإسراء:٢٩] أي: ولا تنفق إنفاقاً كاملاً لأنك ستحتاج إليه فلا تجده، ودائماً كلا طرفي الأمور ذميم، والعبرة بالطريق الوسط.
نبينا صلى الله عليه وسلم حل ضيفاً على أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه الأنصاري المعروف، فالرجل بدأ بعذق من النخلة فيه بسر ورطب وتمر، ووضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ السكين، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم والسكين في يده، فعرف أنه يريد أن يذبح طعاماً لنبي الله، والنبي جاء بالمنهج الوسط، فقال له:(إياك والحلوب)، الآن افهم مقصوده عليه الصلاة والسلام، هو لم يقل له: لا تذبح لي؛ لأن في هذا منعاً للمضيف أن يكرم ضيفه، ولم يرخص له في أن يذبح أي شيء حتى لا يتضرر أهل الدار، فلو ذبح حلوباً لتضرر أهل الدار لأنهم يشربون من لبنها، وربما انتفع بها ولدها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لجأ إلى حل أمثل يجعل الرجل يكرم ضيفه دون أن يتضرر أهله، وهذا هو معنى قوله تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}[الإسراء:٢٩] فإن قال قائل: ما تقول في فعل الصديق عندما قال: تركت لهم الله ورسوله.
نقول: هذا فعل عارض أولاً، الأمر الثاني: أن أبا بكر كان رجل تجارة، ومعلوم أن صاحب التجارة قد يكون أحياناً في يده مال وأحياناً لا يكون، وقد ينفق اليوم ثم يأتيه بيع آخر يدر عليه.
قال تعالى:{وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:٢٩ - ٣٠] الرزق بيد الله، وما كتبه الله لك سيصل على ضعفك، وما لم يكتبه الله لك لن تناله بقوتك:(إن روح القدس نفث في روعي: أن النفس لن تموت حتى تستوفي أجلها، وتستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، ثم قال عليه الصلاة والسلام:(ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن ما عند الله إنما يطلب بطاعته ولا يطلب بمعصيته).