[تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى)]
الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا لقاء مبارك نستكمل ونستأنف فيه ما كنا قد تكلمنا عنه في سورة البقرة، وانتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جلا وعلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:١٥٨].
أما اليوم فسنبدأ بقول الله جلا وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩].
قال أهل العلم رحمهم الله في بيان هذا: أصل سبب نزول الآية أن نفراً من الصحابة ذهبوا إلى أحبار يهود يسألونهم عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عنه صلوات الله وسلامة عليه في التوراة، وكان أولئك الأحبار يعلمون ذلك جيداً، قال الله جلا وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦]، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أولئك الأحبار كتموا ذلك العلم الذي علمهم الله جلا وعلا إياه وأبانه لهم جلا وعلا في التوراة فأنزل الله قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة:١٥٩]، ولذا ذهب بعض العلماء إن المقصود بالكتاب هنا: التوراة، والصواب أن يقال: إن أولها عن التوراة وآخرها في القرآن، وليست الآية محصورة في فرقة بعينها، فكل من كتم علماً دخل في الوعيد الذي تتضمنه الآية، والأصل في ذلك أن الله جلا وعلا أحيا الناس وأحيا قلوبهم بالعلم الشرعي، فإذا أوتي أحد علماً شرعياً فبخل به على الناس وكتمه فإنما تسبب في موت الناس وإفسادهم، وهذا مستحق للعنة.
واللعن عند العرب هو الطرد والإبعاد، لكنه في عرف الشرع الإبعاد عن رحمة الله، وعند العرب كان كل شيء يدعو إلى الوصف بالقبيح يسمى لعناً فكانوا يخاطبون ملوكهم ووجهائهم بقولهم: أبيت اللعن أي: لا تفعلوا فعلاً تستحقوا عليه اللعن، وإنما أنت تفر عن كل سبب موجب لذنبك وقدحك وشينك.
ويوجد فرق بين لعنة الله وبين ما يعير به الناس من باب العرف والتقاليد، فليس ذلك كما يعيرون به من باب الشرع.
كتمان العلم من أعظم الإفساد في الأرض؛ ولهذا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهو راوية الإسلام الأول لما كان يكثر من نقل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ في عصره جيل لا يعرفونه حق المعرفة وقالوا: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه: (تقولون: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم! الله الموعد -أي: القيامة بيني وبينكم- وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً بشيء أبداً) ثم تلا هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩].
ثم تأمل سنن الله جلا وعلا في خلقه كيف تتقابل على التالي: العالم الذي ينشر علمه ويدعو إلى الخير ويعرف الناس بربهم تبارك وتعالى يصلي عليه كل أحد، ويستغفر له حتى الحوت في بحره، ومقابل هذا من أوتي علماً وكتمه ولم يبينه للناس وأوقع الناس في ضلال مبين دون أن يسعى في إخراجهم مما هم فيه فهذا يلعن قال الله جلا وعلا: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩]، وكلمة اللاعنون عامة ولم تحدد.
وذكر بعض العلماء كما في طريقة الشنقيطي في التفسير أن ما بعدها أن الله تفسرها قال: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:١٦١]، لكن الصواب أن يقال: كل من يتضرر من كتمان العلم هو مندرج في لعن من كتم ذلك العلم، هذا في ظني أصوب ما يمكن أن يقال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩].