للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)]

قال الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥].

هذه الآية دائماً تصبح محل نزاع، فيأتي الإنسان المحجم يستدل بظاهر قول الله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥].

ويأتي الباذل المقدام فيفسرها بأثر أبي أيوب عند أن قال: نزلت فينا معشر الأنصار أننا آثرنا الزرع على الجهاد.

والحق أن يقال ما يلي: الإنفاق لا يسمى إنفاقاً إلا إذا كان في وجه يسمى إصلاح مال, وأما تضييع المال فلا يسمى إنفاقاً.

وينبغي أن تعلم أن الله أمر بالإنفاق وأمر بالجهاد, وبين الإنفاق والجهاد طرفي نقيض, فيقابل الإنفاق إما البخل وإما الإسراف، فقول الله تبارك وتعالى: {وَأَحْسِنُوا} [البقرة:١٩٥] تعود على الإنفاق, والمعنى: لا تنفقوا إنفاقاً يصل إلى حد الإسراف، ولا تكونوا بخلاء.

وفي قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥] أي: لا تقعدوا عن الجهاد، وأيضاً: فلا تلقوا بأنفسكم إلى المهالك على وجه يغلب على الظن أنه الهلاك المحقق, فيصبح الإقدام غير التهور، فتصبح الآية {وَأَحْسِنُوا} [البقرة:١٩٥] ضابطاً لقوله تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥].

فالقعود عن الجهاد إلقاء للنفس في التهلكة؛ لأنك قصرت في واجب شرعي فتهلك بتركه، والتهور في المعركة بإلقاء النفس في التهلكة المحققة على وجه مذموم، منتقد شرعاً.

والإنفاق إذا كان إسرافاً فهو إلقاء للمال في التهلكة على وجه مذموم، كما أن القعود عن الإنفاق بخل يلقي النفس في التهلكة؛ لأن البخل لا يورث إلا ذماً.

إذاً: فالمعنى: فيما يغلب على الظن أنه هلاك.

والعرب كانت تعيب التهور في المعارك ولا تعده شجاعة, ويقولون: إن الأعشى مدح أحد الملوك في زمانه فقال: وإذا تجيء كتيبة ملمومة خرساء قد كره العدو نزالها كنت المقدم غير لابس لمة بالسيف تضرب معلماً أبطالها يقول: إذا جاءت كتيبة خرساء من الحديد الذي عليهم فكأنها صماء، فيتحاشى أحد أن ينازلها، فأنت أيها الملك كنت المقدم غير لابس لمة، أي: غير لابس درع.

فعابت العرب الأعشى على هذا البيت الذي قاله في الملك, وقالوا: ما زدت على أن وصفت الملك بالتهور, وهذه ليست بشجاعة.

فالضابط القرآني جاء مبيناً لمسالك الناس في الإنفاق: ألا يكون إسرافاً ولا بخلاً، وفي الحروب ألا يكون قعوداً ولا تهوراً.

وهذا هو معنى قول الله: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥].