[تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم)]
قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:٢٢].
يقول بعض العلماء: إن عدد أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، وأن الآية نصت على ذلك؛ فإن الله قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] ثم قال: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:٢٢] وقال: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] ولم يقل: رجماً بالغيب وجاء بالواو بعد قوله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، وقالوا إن هذه الواو واو الثمانية.
والحق الذي يجب المسير إليه أنه ليس في الآية ما يدل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، صحيح قد يكونوا سبعة وثامنهم كلهبم، لكن أقول: الآية لا تدل عليه، إذا قلنا لا تدل عليه يجب الرد على الدليلين الذين احتجوا بهما.
أما الرد على الأول: فإن الله لم يقل رجماً بالغيب في الثالثة؛ لأنه تكرر في الأول، وهذا أسلوب قرآني واضح لمن تأمل القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] إلى أن قال جل وعلا: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦] وتقدير الآية: ولا جان قبلهم، لكنه لم يكررها بعد جان وكررها بعد الإنس؛ لأنه ذكرها في الأول يغني عن ذكرها في الثاني، وهذا أسلوب قرآني في أكثر من آية يستطيع الإنسان أن يصل إليه.
أما قولهم إن الواو واو الثمانية فهذا من العجب، فلا يوجد في اللغة شيء اسمه: واو الثمانية - مع تقديرنا لمن قال به من فضلاء العلماء - وقد احتجوا بآيات من القرآن: منها قوله جل وعلا: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة:١١٢] إلى أن قال: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:١١٢] قالوا: هذه ثمانية.
ومثله قول الله تبارك وتعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:٥] إلى أن قال جل ذكره: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:٥].
والرد على هذا أن يقال: أما الواو في ثيبات وأبكارا فهي واو عاطفة يراد بها التقسيم؛ لأنه لا يمكن أن تكون المرأة ثيب وبكر في وقت واحد، فلا يستقيم أن يقال: ثيبات أبكارا.
والأمر الثاني المتعلق بآية التوبة: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:١١٢] أن هذا أمر فيه التصاق، يعني: كل ما جاء في القرآن عن أمر بمعروف ونهي عن منكر يؤتى بالواو، ويكون ذلك حتى في الأفعال: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ومن الأدلة التي احتجوا بها: آية الزمر التي قال الله فيها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:٧٣]، فقالوا: إن المقصود من هذه الواو أن الله قال: أبواب الجنة ثمانية، ولا ريب أن الواو هذه واو حال، والمعنى أنه سيحدث شيء قبل فتح الأبواب، وقد دلت عليه السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب الجنة.
ومن الأدلة الدامغة في أنه لا يوجد واو ثمانية أن لو وجدت لالتزمها القرآن، قال الله جل وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر:٢٣] الثامن: {الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:٢٣] فلو كان هناك واو تلتصق بالثمانية كما ذهبوا إليه لقال الله: العزيز الجبار والمتكبر، لكن الله لم يقلها؛ لأنه لا التزام لها أصلاً، وإنما قيلت في تلك المواطن لا لعدد الثمانية، وإنما لأن الحالة تناسب وتفرض أن تكون هناك واواً.
نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنا من القليل الذين يعلمونهم، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
أقول: هذا محتمل لكن ليس من الآية: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:٢٢].
وهنا قال العلماء إن الإنسان إذا فسر هذه الآية ينبغي عليه أن ينبه طلابه على أنه لا يتعلق بعددهم كبير علم، فهناك أمور يجب الاصطلاح عليها، فهناك أمور تسمى: من مليح القول، وأمور تسمى: من متين العلم، فلو قُدِّر أن عرفنا عددهم فهذا من مليح القول وليس من متين العلم.
والدليل على أنه ليس من متين العلم، أنه لو كان كذلك لأخبر الله جل وعلا به، قال الله جل وعلا: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ} [الكهف:٢٢] وكلمة (ما): نافية.
{إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:٢٢].
ثم قال الله لنبيه: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:٢٢] أي: لا تجادلهم بكثرة؛ لأنكم لن تصلوا إلى بغيتكم، فلابد أن يكون بين طرفا الجدال أرضية مشتركة، وتقارب، أما إذا كان هناك تفاوت فإن الأدنى سفيه لن يعرف للعالي قدره، وإذا لم يعرف له قدره لن يكون هناك توافق في الجدال: وإن عناء منك أن تعلم جاهلاً فيحسب جهلاً أنه منك أعلمُ.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم لا يمكن أن يتفقوا، ولهذا قال الله لنبيه: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:٢٢]، بل إنه بعد ذلك قطع وحسم المادة كلها فقال: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢]؛ ذلك لأنهم ليسوا ذوي علم ولا يستفتى إلا من كان ذو علم، {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢] أي من القرشيين.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] السين للاستقبال، والمعنى أن هذا الأمر لم يقله القرشيون بعد، لكنهم سيقولونه وقد قالوه؛ لأن الله جل وعلا أخبر بأنهم سيقولوه.
مما يستطرف في هذا المقام: أنهم يقولون إن دعبل الخزاعي، وهو شاعر كان مناصراً لآل البيت بقوة وفيه تشيع شديد، وله أبيات في ذلك منها: ذكرت محل الربع من عرفات فأجريت دمع العين بالعبراتِ التي فيها: ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات كان على خصومة مع المعتصم والمعتصم هو ثامن خلفاء بني العباس، ويقولون إن رقم ثمانية ارتبط به ارتباطاً كبيراً، فهو ثامن الخلفاء العباسيين، وكان له من الأبناء: ثمانية ذكور، وثمان إناث، وحكم ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومات وعمره ثمان وأربعون سنة، وهو الذي آذى الإمام أحمد وكان متأولاً.
المهم: أنه خالف دعبل، والعاقل لا يعارض السفهاء خاصة منهم الشعراء؛ لأن الشاعر قد يكون جباناً، لكنه يقول قولاً يسيراً بين الناس فيغلبك بشعره لا بقوته ولا بسلطانه، فانتهز دعبل كون المعتصم ثامن الخلفاء فقال يهجو المعتصم: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة غداة ثووافيه وثامنهم كلب ويقال إن المعتصم أهدر دمه وهو معذور من الناحية السياسية في إهداره لدمه.
وقد بقيت خصومة المعتصم مع دعبل، وقد كانت قديمة حتى مع المأمون أخو المعتصم إلا أنه السابع، طبعاً في السابع ما وجد شيئاً يقوله، لكن المأمون وصل إلى الحكم بعد مقتل الأمين، والذي قتل الأمين رجل خزاعي من بني خزاعة من قوم دعبل، فقال دعبل يهجو المأمون ويبين له أن الخلافة ما وصلته إلا بسبب قومه - ما معناه -: نحن الذين قتلنا الأمين وأوصلناك إلى الخلافة.
المقصود: أن العاقل لا ينافس السفهاء، وقد جاء في الحديث أن الإنسان يدافع عن عرضه بالمال، والإنسان قد يذهب إلى بقال مثلاً ويريد أن يشتري شيئاً زهيداً بريال، فلو اختصمت معه وعلت أصواتكما لاجتمع الناس على ريال.
ولو أخطأت في كلمة في المحراب أو في المنبر أو في الإمامة ولك خصوم فكل ذي نعمة محسود، فيأتي الناس إلى حاسديك ويسألونهم عنك، فيقولون عنك: أصلاً هذا ليس فيه خير؛ هذا لأجل ريال قاتل الناس، نسأل الله العافية.
فأنت عاقل، لو قال: ما دفعت ريالاً أعطيه ريالين، ولو قال: ما دفعت ريالين أعطه ثلاثة.
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لن يبن ملك على جهل وإقلال ولهذا في القرآن طيات وأمور خفية هي حقيقة التفسير، والأصل أن نستظل بما في القرآن وأن نفيء بما في القرآن من آيات تبين لنا كيف نكون أنفسنا، والدليل على ذلك أنه ما فقه القرآن أحد مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، فالأيام النضرة للرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مفسر للقرآن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ هذا في نفسه يقول - وعبد الله بن أبي مستحق للقتل -: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) وقف يقول: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه لأهلي) فاختصم السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فنزل من المنبر حتى يسكن الناس ولا يخوض الناس في اللغط